من البادية إلى أبواب دمشق: ديناميات الانهيار العسكري والإقليمي في الجنوب السوري بالتزامن مع ردع العدوان

الوقت اللازم للقراءة:
15 minsشكّلت معركة ردع العدوان التي امتدت بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 و 8 كانون الأول/ديسمبر 2024م محطة مفصلية في مسار الصراع السوري، إذ أنها مثّلت اللحظة التي انهار فيها نظام عائلة الأسد بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً من المواجهات من الأسد الصغير. وبخلاف الانطباع الشائع بأن مسار الانهيار جرى في الشمال وحده، أظهرت الوقائع أن الجبهة الجنوبية لعبت دوراً مركزياً في تغيير موازين القوى، وأنها كانت أحد المحركات الحاسمة في الوصول إلى تخوم العاصمة ودخولها.
تقدّم قوات المعارضة من قاعدة التنف شكل نقطة الانطلاق الأساسية للحملة البرية في الشرق، حيث تحرّكت مجموعات من جيش مغاوير الثورة داخل البادية السورية بالتزامن مع وحدات جنوبية محلية من درعا والقنيطرة. هذا التقدم أتاح التقاء عدة محاور عسكرية في القلمون الشرقي وصولاً إلى تل المانع ثم عمق محافظة القنيطرة، قبل الانتشار في حزام ريف دمشق الجنوبي. وبهذا المسار تبلورت إحدى أسرع العمليات الميدانية التي هدفت إلى قطع خطوط إمداد النظام وعزل العاصمة.
أما على مستوى الانهيار العسكري، فقد ظهر أن القوات التابعة للنظام كانت تعاني من ضعف بنيوي تراكم عبر سنوات، يتمثل في تشتت مراكز القيادة، وتراجع القدرة على المناورة، وفقدان الحاضنة، إضافة إلى اعتماد مفرط على مليشيات خارجيّة فقدت جزءاً كبيراً من فاعليتها نتيجة الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقعها وتحركاتها خلال العام 2024. كما تراجع الغطاء الروسي بصورة ملحوظة ابتداءً من أواخر تشرين الثاني، في ضوء أولويات موسكو الخارجية وإعادة تموضعها في الجنوب، مما سرّع من تفكك الوحدات العسكرية وسقوط مواقع استراتيجية دون قتال يُذكر. ويمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 في إطار سعي تل أبيب إلى منع المليشيات الإيرانية من استغلال الفراغ المفاجئ الناتج عن تفكك النظام، الأمر الذي دفعها لتنفيذ ضربات مركزة في محيط دمشق وجنوب البلاد. في الوقت ذاته، جاء الانسحاب الروسي من عدد من النقاط العسكرية في القنيطرة وريف دمشق الجنوبي كإشارة واضحة على انتهاء مرحلة الدعم المباشر للنظام.
وفي هذا المقال سأقدم رؤية متكاملة لتلك التطورات من خلال تتبع مسارات التحرك العسكري لقوات المعارضة، وفهم البنية المتداعية للجيش السوري، وتحديد الفاعلين الميدانيين والمؤثرين الإقليميين، مع تفسير السياقات التي أحاطت بالتصعيد الإسرائيلي وإعادة التموضع الروسي، بما يُسهم في تقديم تصور شامل للكيفية التي انهار بها النظام في تلك الفترة.
مسار العمليات العسكرية من منطقة التنف إلى العاصمة دمشق
شكّلت قاعدة التنف، التي تتمركز فيها قوات جيش مغاوير الثورة بدعم من الولايات المتحدة، نقطة الانطلاق المحورية لعمليات المعارضة في البادية خلال أواخر عام 2024. فبينما انشغل المشهد العام بجبهات إدلب وحلب، كانت الفصائل المنتشرة في الجنوب تُعدّ لعملية واسعة منذ أشهر، اعتمادًا على تموضعها في المثلث الحدودي السوري–العراقي–الأردني وقدرتها على التحرك في عمق الصحراء.
وفي 7 كانون الأول/ديسمبر 2024 تقدمت قوات مغاوير الثورة شرقًا وغربًا ضمن البادية، وسيطرت على تدمر (بالميرا) والسخنة والقريتين، إضافة إلى جبل الغراب، وهو موقع حاكم يطل على الطريق الواصل بين تدمر ودمشق. ومع هذا التقدم، أُمنت فعليًا المناطق الصحراوية التي تربط الحدود العراقية بمحور حمص–دمشق، الأمر الذي أدى إلى قطع خطوط الإمداد، ومنع القوات المتمركزة في العمق من إعادة انتشارها أو تنفيذ التفاف عبر الصحراء. تزامن ذلك مع استعادة مجموعة من النقاط العسكرية المنتشرة حول جبل الغراب ومعبر الزقف، إضافة إلى الاستيلاء على عتاد ثقيل ومدفعية تركتها قوات النظام خلال انسحابها. وفي الساعات التالية، تكشّف فراغ عسكري واسع في محيط القريتين وتدمر والسخنة، حيث انسحبت وحدات النظام بشكل متسارع نتيجة انهيار خطوطها الأمامية، ما سمح لقوات المغاوير بتوسيع نطاق السيطرة دون الحاجة إلى عمليات اقتحام واسعة.
أدت هذه الحركة المباغتة من الشرق إلى إرباك بنية القيادة العسكرية للنظام، وشلّ قدرته على تعزيز الجبهات الأخرى، خصوصًا تلك الممتدة نحو القلمون الشرقي وريف دمشق. ونتيجة لذلك، تراجعت قدرة النظام على استخدام البادية كعمق لوجستي أو كمسار التفافي نحو الشمال أو الجنوب، ما منح فصائل المعارضة هامشًا ميدانيًا غير مسبوق للتحرك في عمق المناطق التي كانت تعدّ سابقًا من أكثر الجغرافيا السورية تحصينًا.
فيما جاء تشكيل غرفة عمليات الجنوب في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2024 ضمن لحظة ميدانية وسياسية شديدة التحوّل، تداخل فيها صعود العمل العسكري في الجنوب مع التقدم المتسارع الذي حققته غرفة عمليات ردع العدوان في شمال غرب سوريا. هذا التزامن لم يكن مجرد تطور متوازي، بل شكّل جزءًا من إعادة توزيع واضحة لثقل المعارضة المسلحة على امتداد الجغرافيا السورية، بحيث تحرك المساران (الشمالي والجنوبي) بوصفهما ضغطًا متكاملًا على النظام من اتجاهين مختلفين.
في الجنوب، لم تكن الساحة تضم “فصائل” بالمعنى التنظيمي التقليدي الذي عرفته المعارضة في سنوات سابقة، بل تشكيلة محلية أكثر تعقيدًا. فقد مثّل اللواء الثامن (المنبثق عن اتفاق التسوية مع الروس) الكتلة العسكرية الأكثر انتظامًا في درعا، إلى جانب مجموعات من أبناء المحافظة الذين انخرطوا في التسويات ثم أعادوا التموضع مع تصاعد الاحتجاجات والانهيار الأمني للنظام. وفي السويداء، برزت خريطة أشد تعقيدًا، إذ تداخلت مجموعات متعددة من رجال الكرامة وتشكيلات محلية أخرى (بعضها اتجه لاحقًا إلى التنسيق مع الحكومة السورية الانتقالية، فيما اختار بعضها تشكيل نواة الحرس الوطني الموالي لخط حكمت الهجري). هذا المشهد المركّب كان بعيدًا عن نموذج “الفصائل” التقليدية، لكنه شكّل مع ذلك قاعدة اجتماعية-عسكرية قادرة على فرض معادلات جديدة.
ضمن هذا الإطار، جاء الإعلان عن تأسيس غرفة عمليات الجنوب تحت شعار “وجهتنا دمشق” كتتويج لانتقال المشهد مما كان في جوهره احتجاجًا محليًا إلى صيغة تنسيق عسكري عريضة بين هذه المكونات. وقد أسهم هذا التنسيق في خلق شبكة مرنة من نقاط التماس والانتشار، ما سمح بالتقدم السريع نحو غالبية مدن وبلدات درعا والسويداء والقنيطرة خلال ساعات، في لحظة كانت فيها منظومة الدفاع التي اعتمد عليها النظام تتآكل على نحو متسارع.
التحول الاجتماعي في السويداء لعب دورًا حاسمًا في هذا السياق، فالأشهر الطويلة من الاحتجاجات المدنية أنهكت الأجهزة الأمنية للنظام وقلّصت قدرتها على المناورة، الأمر الذي جعل دخول التشكيلات المحلية إلى مناطق واسعة من المحافظة يتم دون قتال فعلي. وفي الخلفية، كان الانسحاب الروسي من تل الحارة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024 يخلّف فراغًا شديد الحساسية، نظراً إلى الموقع الاستراتيجي للتل بوصفه أهم نقطة مراقبة ورصد في الجنوب، ما أدى إلى تفكك جزء أساسي من شبكة السيطرة التي اعتمد عليها النظام لسنوات.
ومع تراجع قدرة النظام على تثبيت جبهاته، تقدمت تشكيلات الجنوب نحو نحو الريف الجنوبي الغربي من ريف دمشق، لتصل إلى مسافة تقل عن عشرين كيلومترًا من المدخل الغربي للعاصمة. هذا التقدم تزامن مع الضغط القادم من الشرق عبر مجموعات انطلقت من منطقة التنف، ومع المكاسب التي حققتها قوى المعارضة في شمال غرب البلاد، ما خلق وضعية تطويق متعددة الاتجاهات أنهكت قدرة النظام على إعادة الانتشار أو تعزيز خطوطه.
ومع حلول 7 كانون الأول/ديسمبر 2024 كان المشهد العسكري في الجنوب قد حُسم بالكامل لصالح غرفة عمليات الجنوب، بعد انهيار حضور النظام في درعا والقنيطرة والسويداء بصورة متسارعة. فقد أُخليت المواقع العسكرية والأمنية الرئيسة، كما تفككت منظومة المراقبة الروسية في محيط الجولان بعد انسحاب وحداتها من كافة النقاط التي كانت تتمركز بها، الأمر الذي أدى إلى فراغ كامل في الجنوب، وانكشاف الطريق المؤدي إلى العاصمة من عدة محاور.
هذا الانهيار منح الفصائل القدرة على إعادة توزيع قواتها والدفع نحو ريف دمشق الغربي والشرقي في وقت واحد. في هذا السياق، انتقلت المعركة من نطاق السيطرة على المحافظات الجنوبية إلى مرحلة الهجوم المباشر على العاصمة، ضمن ما اعتُبر (المرحلة الأخيرة) من العمليات العسكرية. بدأت التحركات الهجومية عبر ثلاثة مسارات مترابطة:
- المحور الجنوبي: عبر طريق القنيطرة – سعسع، حيث استُخدمت المناطق المفتوحة في الريف الغربي لتوسيع الاختراقات باتجاه مراكز انتشار الحواجز الأمنية التي شكّلت خط الدفاع الأول عن العاصمة.
- المحور الشرقي: عبر طريق تدمر – القريتين بعد السيطرة على جبل الغراب، وهو ما أتاح تعديل اتجاه الهجوم من بادية حمص نحو مناطق يُفترض أنها كانت الأكثر تحصينًا في مدخل العاصمة الشرقي. شكّل هذا المحور نقطة التقاء مع قوات غرفة عمليات ردع العدوان المتقدمة من الشرق، الأمر الذي ضاعف الضغط على خطوط النظام الدفاعية.
- المحور الشمالي: عبر برزة والقابون، حيث تقدمت وحدات المعارضة داخل الأحياء المتاخمة للمركز الأمني للعاصمة، مستفيدة من الانكشاف الذي خلّفه سحب النظام قواته لدعم جبهات الجنوب والبادية.
خلال 48 ساعة فقط، تراجعت قدرة النظام على إدارة خطوط الدفاع، وانهارت مقار أمنية مركزية داخل العاصمة. وتمكّنت وحدات المعارضة من دخول مواقع سيادية والسيطرة على منشآت حسّاسة، من بينها مراكز القيادة الأمنية، إضافة إلى فتح سجن صيدنايا الذي كان يُعد من أكثر المؤسسات الأمنية رمزية في بنية النظام. بهذا التقدّم، انتقلت العمليات من مستوى (الضغط العسكري على الأطراف) إلى مستوى الاقتحام المباشر للمركز السياسي والأمني للدولة، ما شكّل نقطة انعطاف نهائية في مسار الحملة العسكرية التي بدأت من الجنوب والبادية والشمال الغربي بشكل متزامن، وتحولت في نهاية
العوامل البنيوية التي سرّعت انهيار قوات النظام في الجنوب وفي سوريا عمومًا
يمكن تفسير الانهيار السريع لقوات النظام في الجنوب خلال كانون الأول/ديسمبر 2024 ضمن سياق أوسع يعكس تآكل قدرة النظام على الصمود في مختلف الجبهات. فقد تداخلت ثلاث عوامل رئيسة لتشكّل البيئة التي سهّلت تقدّم الفصائل المسلحة من الجنوب والبادية والشمال الغربي في وقت واحد، وسمحت بالوصول المباشر إلى أطراف دمشق دون مقاومة تُذكر.
- الانهيار المعنوي داخل الوحدات العسكرية وفقدان الدافع القتالي: أظهرت مراجعة ظروف الوحدات التي كانت تنتشر في درعا والسويداء والقنيطرة أن هذه القوات عانت من مستويات متدنية من الانضباط والدافع القتالي، نتيجة شعور واسع بأن الحلفاء التقليديين لم يعودوا قادرين على توفير الدعم. كما تراجع مستوى الإمداد اللوجستي والغذائي بشكل كبير، وتزايدت حالات ترك الجنود لمواقعهم وتسليم أسلحتهم قبل وصول المعارضة. حتى على مستوى القيادة، برزت مؤشرات اعتراف ضمني بعدم رغبة عناصر الجيش في القتال، وهو ما انعكس مباشرة على انهيار خطوط الدفاع الأولى. وفي الجنوب تحديدًا، أدت الاحتجاجات الواسعة في السويداء، وبيانات المشايخ الداعية إلى العصيان المدني، إلى انقسام داخل القوات المحلية، إذ امتنعت مجموعات عسكرية عن قمع المحتجين أو انسحبت من مواقعها، ما سمح بدخول الفصائل إلى معظم المدن دون اشتباك.
- تبدّل المعادلات الإقليمية وتراجع قدرة الحلفاء على الدعم: خضعت البيئة الإقليمية خلال عام 2024 لتحولات جوهرية. فقد انشغلت إيران بمواجهة مباشرة ومكلفة مع إسرائيل، أدت إلى سحب جزء من مستشاريها من سوريا وتقليص حضورها العسكري، بينما خسر حزب الله جزءًا من قدراته في الجنوب اللبناني بعد مواجهات قاسية. هذه التطورات حدّت من قدرة الحليفين الأكثر أهمية للنظام على توفير الإسناد البشري والتقني. في الوقت نفسه، خفّضت روسيا من حضورها العسكري نتيجة ضغوط حرب أوكرانيا، خصوصًا في مجال القوة الجوية التي شكّلت سابقًا العنصر الأكثر حسماً في تثبيت خطوط النظام. وبغياب الغطاء الجوي الروسي وتراجع الدعم الإيراني، واجهت قوات النظام الميدانية فراغًا استراتيجياً لم يكن بالإمكان تعويضه.
- الضغط الاقتصادي والانهيار الاجتماعي في مناطق سيطرة النظام: شهدت سوريا في تلك الفترة واحدة من أسوأ مراحل الانهيار الاقتصادي منذ 2011، مع تراجع قيمة الليرة وتحوّل تجارة الكبتاغون إلى مصدر التمويل الأبرز. أثرت هذه الظروف على بنية النظام الاجتماعية وعلى مستوى ولاء قواعده التقليدية. في ظل تفاقم الفقر وتراجع الخدمات، فقدت شرائح واسعة من سكان المناطق الموالية ثقتها بقدرة النظام على الاستمرار، وانعكس ذلك مباشرة على الجيش الذي عجز عن تجنيد عناصر جديدة أو الحفاظ على الحد الأدنى من الجاهزية. وأدى هذا التفكك الاجتماعي إلى مناخ من اللامبالاة العسكرية، جعل الانهيار وشيكًا فور بدء الضغط العسكري المتزامن على عدة جبهات.
الانسحاب الروسي وتداعياته على الجبهة الجنوبية
بدأ التراجع الروسي في الجنوب قبل فترة ليست قصيرة من انهيار النظام، واتّخذ شكل انسحاب متدرّج من مواقع اعتُمد عليها لسنوات في ضبط الحدود والتوازنات الميدانية. ففي 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أُخلي موقع تل الحارة بصورة كاملة، وهو أعلى موقع استراتيجي في محافظة درعا ويُشرف على مساحات واسعة من الجولان. نُقلت حينها المعدات باتجاه شمال درعا ومن ثم إلى مطار الضمير العسكري، ما يعني إنهاء خمس سنوات من وجود الشرطة العسكرية الروسية التي تمركزت في الموقع بموجب تسوية 2018. هذا الإخلاء لم يكن حدثاً موضعياً، بل إشارة مبكرة على تفكك منظومة المراقبة التي اعتمدت عليها موسكو لضبط الإيقاع الأمني في الجنوب.
وقد تزامن هذا الانسحاب مع تراجع أوسع في الانخراط الروسي داخل سوريا نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانية، حيث قلّصت موسكو حينها حضورها الجوي منذ عام 2022، واكتفت بإدارة الحد الأدنى من عملياتها انطلاقاً من حميميم وطرطوس. ومع اقتراب الهجوم المعارض مطلع كانون الأول/ديسمبر 2024، كانت القدرة الروسية على توفير غطاء جوي أو دعم بري فاعل قد انخفضت إلى مستويات غير قادرة على التأثير في مسار العمليات. وهذا الفراغ دفع النظام إلى الاعتماد بصورة أكبر على إيران وحزب الله اللبناني، إلا أنّ الأخير كان يواجه خسائر عسكرية في مواجهته مع إسرائيل خلال عام 2024، ما حدّ من قدرته على إرسال تعزيزات أو استعادة زمام المبادرة.
وبالتزامن مع سقوط مؤسسات نظام الأسد المركزية مع بدأ معركة ردع العدوان، تسارع الانسحاب الروسي من الجنوب بصورة أوضح. فقد أُخليت كافة النقاط الروسية في الجنوب السوري، من ضمنها مواقع على خط الفصل نفسه، وتوجّهت القوات الروسية نحو دمشق ومن ثم إلى مطار حميميم العكسري بالتزامن مع دخول قوات غرفة عمليات ردع العدوان إلى المدينة. وقد كان لهذا الانسحاب أثران مباشران: الأول هو تفكيك شبكة الضبط العسكري التي اعتمدت عليها موسكو للحفاظ على الاستقرار الهش في الجنوب، والثاني هو إفساح المجال أمام إسرائيل للتوغل داخل المنطقة العازلة دون مقاومة فعلية.
أظهر هذا التطور أن الوجود الروسي في الجنوب لم يكن قابلاً للاستمرار في ظل الضغوط الدولية وتعدد الجبهات المفتوحة أمام موسكو. كما كشف أن نظام الأسد كان يعتمد اعتماداً شبه كامل على الدعم الخارجي للحفاظ على وجوده العسكري، وأن أي تراجع في هذا الدعم ينعكس مباشرة على قدرته على الصمود. لقد أدى الانسحاب الروسي، في لحظة كانت فيها البنية العسكرية للنظام تتفكك، إلى تسريع الانهيار وإعادة تشكيل الخريطة الميدانية بما يخدم القوى المحلية الصاعدة والفاعلين الإقليميين الذين تحركوا لملء الفراغ.
تصعيد الاحتلال الإسرائيلي في 8 كانون الأول 2024 وتحول ميزان القوة بعد سقوط النظام
مع انهيار مؤسسات الحكم المركزي ووصول قيادة انتقالية إلى دمشق برئاسة أحمد الشرع، برزت مخاوف الاحتلال الإسرائيلي متسارعة من احتمال انتقال ترسانة النظام الثقيلة، بما في ذلك الصواريخ البعيدة المدى وبعض المكوّنات الحساسة ذات الطابع الكيميائي، إلى فصائل مسلحة تُصنف باعتبارها خصماً استراتيجياً. وقد أظهر رصد تطور العمليات العسكرية أنّ إسرائيل اعتبرت اللحظة فرصة لإعادة صياغة بيئة أمنها الحدودي عبر إضعاف كامل البنية العسكرية للنظام، ومنع أي قوة محلية صاعدة من استلام تلك الترسانة أو الاقتراب من مناطق التماس.
الهجمات الجوية الإسرائيلية تكثفت بصورة غير مسبوقة منذ الأيام الأولى لسقوط دمشق، حيث جرى توثيق ما يزيد على ثلاثمائة غارة داخل الأراضي السورية بين الثامن والخامس عشر من كانون الأول، مع أن قسماً كبيراً منها وقع خلال الأيام التي تلت انهيار مؤسسات النظام. وعملت هذه الضربات على استهداف مراكز الأبحاث والمنشآت العسكرية والقواعد الجوية، إضافة إلى مواقع خُصصت لتخزين الأسلحة الثقيلة، بما فيها أماكن يُشتبه بوجود مواد حساسة فيها. كما شملت العمليات تدمير قطع بحرية سورية راسية في مرفأي اللاذقية والبيضاء، في إشارة إلى رغبة إسرائيل في محو أي قدرة للنظام أو حلفائه على إعادة تنظيم القوة البحرية لاحقاً.
باشرت إسرائيل تنفيذ عملية أطلقت عليها تسمية “سهم باشان”، استهدفت من خلالها إنشاء حزام مراقبة فعلي في محيط جبل الشيخ وعمق مناطق القنيطرة، إضافة إلى التمدد داخل المنطقة التي كانت منصوصاً عليها في اتفاق فصل القوات عام 1974. وقد سيطرت وحدات عسكرية إسرائيلية على كامل المنطقة المنزوعة السلاح، وأقامت نقاط تفتيش على التخوم الخارجية للمنطقة العازلة، فيما توسعت بعض الوحدات داخل الأراضي السورية بعمق وصل إلى ثمانية عشر كيلومتراً. وشمل ذلك السيطرة على القنيطرة وبعث المدينة والحميدية وعدد من المواقع الحدودية، مع إعلان رسمي بأن اتفاق الفصل لم يعد صالحاً، رغم تأكيدات من مسؤولين إسرائيليين بأن التوغل مؤقت ومرتبط حصراً بمتطلبات الأمن الحدودي.
هذا التوسع الميداني لم يمر دون ردود فعل عربية، حيث وُصفت العملية بوصفها شكلاً من أشكال الاحتلال الجديد، خصوصاً مع إنشاء مواقع عسكرية مؤقتة في محيط جبل الشيخ. كما رأت بعض التحليلات أن إسرائيل سعت عبر هذه العملية إلى منع أي فصيل محلي من تشكيل تهديد محتمل، وإلى فرض واقع أمني جديد يسمح لها بإدارة الحدود الشمالية بمساحة أوسع من النفوذ المباشر.
نتائج الضربات جاءت واسعة النطاق، فقد جرى تدمير ما بين 70٪ و80٪ من القدرات العسكرية الاستراتيجية للنظام خلال الساعات الثماني والأربعين الأولى من العملية، بما في ذلك منشآت البحوث ومخازن الصواريخ والبنى اللوجستية الحساسة. وقد أدى ذلك إلى حالة انهيار شبه تام في منظومة التسليح السورية. وأشار عسكريون سابقون في الجنوب إلى أن إعادة بناء جيش وطني قادر على العمل المنظم سوف يتطلب زمناً طويلاً نظراً لحجم الدمار الذي أصاب البنية العسكرية. كما ولّد القصف حالة ذعر واسعة بين سكان دمشق وريفها، خصوصاً بعد استهداف مركز البحوث العلمية في برزة واندلاع حرائق كبيرة في محيطه. وانتشرت شائعات حول احتمال تسرب مواد كيميائية، قبل أن تصدر فرق الدفاع المدني توضيحات تؤكد عدم وجود تسرب. وفي الجنوب، دمرت الضربات الإسرائيلية عدداً من الدبابات التي استولت عليها الفصائل قبل أيام من الهجوم، ما أعاق إمكان استخدامها في العمليات الجارية.
الطريق إلى دمشق
يبدو جليّا أن انهيار نظام الأسد في معركة ردع العدوان لم يكن نتاج اندفاعة ميدانية واحدة بقدر ما كان حصيلة تفاعل معقد بين مسارات عسكرية متزامنة وتحولات بنيوية وإقليمية عميقة. فمن جهة، أعاد التقدّم السريع لقوات المعارضة انطلاقًا من قاعدة التنف رسم خريطة السيطرة في البادية، عبر قطع شرايين الإمداد بين الحدود العراقية ومحور حمص-دمشق، وفتح الطريق أمام التقاء المحاور القادمة من الشرق مع التحركات المتسارعة لغرفة عمليات الجنوب. ومن جهة ثانية، حوّل تشكّل غرفة عمليات الجنوب، وما سبقه من تحولات اجتماعية في درعا والسويداء والقنيطرة، هذه المحافظات من هامش احتجاجي إلى رافعة عسكرية أساسية دفعت الجبهة الجنوبية إلى تخوم العاصمة خلال أيام قليلة.
في الوقت نفسه، كشفت الأحداث أن البنية العسكرية للنظام كانت قد وصلت إلى مرحلة تآكل متقدمة؛ إذ تزامن انهيار الروح المعنوية داخل الوحدات المنتشرة في الجنوب مع تراجع الإسناد الإيراني والغطاء الجوي الروسي، لتجد القوات الموالية نفسها أمام ضغط متزامن من الجنوب والبادية والشمال الغربي دون قدرة على المناورة أو إعادة التموضع. وجاء الانسحاب الروسي من تل الحارة ثم من نقاط المراقبة في الجنوب ليُسقط إحدى آخر ركائز الضبط الميداني، ويفتح فراغًا أمنيًا سمح للفصائل بالتقدم السريع، كما أتاح في المقابل توغل الاحتلال الإسرائيلي داخل المنطقة العازلة وإطلاق عملية “سهم باشان” التي استهدفت ما تبقى من القدرات العسكرية الاستراتيجية للنظام.

