بين مطرقة العيش وسندان الرسالة

الوقت اللازم للقراءة:
4 minsإضراب المعلمين في شمال سوريا يهدد مستقبل جيل كامل
في مشهد يعكس عمق الأزمة الإنسانية والتعليمية في شمال سوريا، دوت أصوات المعلمين احتجاجاً على واقع مرير يدفعهم لاختيار بين الاستمرار في أداء رسالتهم السامية أو السعي لضمان قوت يومهم. شهدت مناطق إدلب وريف حلب الشمالي والشرقي في تشرين الثاني 2025، حركة احتجاجية واسعة على شكل إضراب مفتوح عن العمل، علقت على إثره العملية التعليمية، في خطوة وصفت بـ “إضراب الكرامة”، مما أثار تساؤلات حادة حول مصير التعليم ومستقبل جيل كامل في منطقة أنهكها النزاع.
جذور الأزمة.. مطالب الكرامة
لم تكن قرارات الإضراب وليدة اللحظة، بل جاءت تتويجاً لسنوات من المعاناة تراكمت تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة وغياب السياسات التعليمية المستدامة. انطلقت الاحتجاجات من قبل “نقابة المعلمين السوريين الأحرار” و”لجنة إضراب الكرامة”، ويمكن تلخيص مطالبها في نقطتين رئيسيتين:
1. تحسين الوضع المالي بشكل عاجل: المطالبة برواتب عادلة تتناسب مع غلاء المعيشة، حيث لا يتجاوز راتب المعلم حالياً 100 دولار في ريف حلب و 130 دولار في إدلب وريفها، وهو مبلغ لا يغطي الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة. طالبت النقابة برفع الراتب إلى 300 دولار كحد أدنى.
2. الاستقرار الوظيفي (التثبيت): تعاني شريحة كبيرة من المعلمين من عدم الاستقرار الوظيفي. وتنقسم فئات المعلمين إلى أربع مجموعات:
- المعلمون القدامى: من كانوا على ملاك وزارة التربية قبل الثورة وبقوا في مناطق المعارضة. الكثير منهم لم تُحتسب سنوات خدمتهم السابقة أو لم يستعيدوا أرقامهم الذاتية.
- خريجو الجامعات في مناطق المعارضة: خريجو السنوات الماضية الذين لم يتم تثبيتهم أو منحهم رقماً ذاتياً، مما يحرمهم من الحقوق والامتياز الوظيفية.
- خريجو المعاهد المتوسطة: يواجهون نفس مصير الخريجين الجامعيين من عدم تثبيت.
- المعلمون الوكلاء (غير المثبتين): يعملون بعقود مؤقتة بلا أي ضمانات مستقبلية.
أصوات من قلب المعاناة.. شهادات المعلمين
من خلال البيانات الصادرة، يمكننا سماع أصوات المعلمين بوضوح، والتي تنقل صورة حية عن معاناتهم وإصرارهم.
في بيان لهم، قال معلمو شمال حلب:
حرصاً منا على أداء رسالتنا التربوية بأعلى درجات المهنية، وانطلاقاً من التزامنا بحقوقنا المشروعة… نعلن استمرار الإضراب المفتوح حتى صدور قرار رسمي واضح.
وأضافوا في رسالة تطمئن الطلاب وأهاليهم:
استمرارنا في هذا الموقف لا يهدف إلى تعطيل العملية التعليمية، بل إلى حمايتها وضمان بيئة عمل كريمة… وسنعمل على تعويض الفاقد التعليمي فور تلبية المطالب.
أما معلمو مجمع قاح التربوي، فقد أظهروا حزماً أكبر في موقفهم ردا على ما يبدو على تهديدات، حيث أكدوا في بيان:
نرفض أي تهديدات تهدف إلى كسر إرادتنا أو المساس بكرامتنا… مطالبنا تتعلق بحقوق المعلمين وكرامتهم، وهي حقوق لا تفاوض فيها.
هذه الأصوات لا تنادي فقط بتحسين أوضاعها المادية، بل تؤكد على البعد الأخلاقي والوطني لحركتهم، وربطوا بشكل واضح بين كرامة المعلم وجودة التعليم الذي يتلقاه الطلاب.
بينما تعددت مطالب المعلمين إلا أن الأولوليات تختلف من حالة إلى أخرى..
إذ عبرت معلمة في مدينة الباب أن من أهم الأولويات متابعة تثبيت المعلمين في ملاك الوزارة وإصدار لوائح إدارية توضح آلية النقل من مدينة لأخرى إذ عانت عديد من الأسر المهجرة إلى الشمال من تشتت بين العودة إلى مدينتها وبين البقاء في عملها في الشمال.
بينما طالب أحد المعلمين بضرورة زيادة رواتب المعلمين الهزيلة والغير قادرة على سد الحوائج الحياتية والمتطلبات اليومية، مما يضطر المعلم إلى البحث عن عمل آخر ليكفي نفسه وأحيانا أخرى تؤدي به إلى الاستقالة وترك هذه المهنة.
ويرى آخر ضرورة توحيد رواتب المعلمين، إذ لا مبرر لاختلافه باختلافه المنطقة لا حسب الكفاءة أو سنوات الخبرة أو حتى ساعات العمل!
تطور الأزمة.. بين التصعيد والتفاؤل الحذر
شهدت الأزمة تطورات سريعة، بدأت بالدعوة لوقفات احتجاجية سلمية، كما فعلت النقابة أمام مديرية تربية حلب. ثم تصاعدت إلى “إضراب مفتوح” استمر لعدة أيام، مما دفع الجهات الرسمية للتحرك.
عقدت سلسلة من الاجتماعات بين ممثلي المعلمين ومديري التربية في إدلب وحلب. وأسفرت هذه الاجتماعات عن وعود رسمية، كما ورد في بيان من منطقة الآتارب (إدلب)، بتلقي “تأكيدات رسمية واضحة… بالعمل على تحسين واقع المعلم بشكل ملموس خلال أيام… وأن الحد الأدنى للراتب سيكون 300 دولار”.
بناءً على هذه الوعود، تم “تعليق الإضراب” واستئناف الدوام اعتباراً من 18 تشرين الثاني 2025، كما أعلن في بيانين منفصلين لمنطقتي إدلب ومجمع قاح. إلا أن هذا القرار جاء مقروناً بتحذير واضح، حيث جاء في أحد البيانات: “نخلي كامل المسؤولية عن أي إجراءات قد تُقدم عليها الكوادر التعليمية لاحقًا في حال عدم تنفيذ تلك التأكيدات”، مما يشير إلى هشاشة الحل وكونه مجرّد مهلة للجهات المعنية.
وأعلن “معلمو ريف حلب الشمالي” بما يخص “إضراب الكرامة” في ظل التجاوب الحكومي لمطالبهم في منحهم أرقاماً ذاتية والتي تعتبر خطوة أولى في دمجهم:
“تعليق الإضراب مؤقتًا حتى 8 كانون الأول 2025 استنادًا إلى وعود حكومية بزيادة حقيقية على الرواتب ودمج المعلمين ومنحهم الأرقام الذاتية وإعادة المفصولين بسبب مواقفهم الوطنية.”
التعليم على المحك.. نداء أخير
أزمة إضراب المعلمين في شمال سوريا هي أكثر من مجرد نزاع عمالي؛ إنها جرس إنذار يدق لإنقاذ أحد آخر أركان المجتمع التي ما تزال صامدة. إن تجاهل مطالب هؤلاء المعلمين لا يعني فقط حرمانهم من حق العيش الكريم، بل يعني الإجهاز على مستقبل جيل بأكمله، ودفعه نحو الأمية والضياع.
الرسالة الموجهة من المعلمين والمجتمع واضحة: حان الوقت لتحويل الوعود إلى أفعال. يجب على الجهات المعنية، المحلية والدولية على حد سواء، خلق حوار جاد وشامل مع نقابات المعلمين لوضع حلول دائمة. استقرار العملية التعليمية وكرامة المعلم وجهان لعملة واحدة، وهي العملة التي سيتحدد على أساسها مصير المنطقة بأكملها. إن إنقاذ التعليم هو خطوة أساسية نحو إعادة بناء الإنسان والمجتمع في شمال سوريا.

