الهلال المكسور: جفاف وحرب

الوقت اللازم للقراءة:
6 minsحكاية الزراعة في سوريا ليست سرداً رومانسياً عن “الهلال الخصيب” بقدر ما هي سجلٌّ لاقتصادٍ ومجتمعٍ يعيش على إيقاع المطر والريّ والحرب والسوق.
فلطالما كانت الزراعة العمود الفقري للاقتصاد السوري، حيث كانت تسهم بنحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي وتوفّر مصدر عيش لأكثر من 40% من القوى العاملة قبل عام 2011. كما كانت سوريا تتمتع باكتفاء ذاتي من المحاصيل الاستراتيجية كالقمح، بمتوسط إنتاج سنوي يناهز 3.5 مليون طن. إلا أن الصراع منذ عام 2011 ألقى بظلاله الثقيلة على هذا القطاع الحيوي، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإنتاج، وتراجع الصادرات، وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن نزوح المزارعين.
هذا التقرير يتتبّع الجذور الحديثة لدور الزراعة في الاقتصاد السوري، ويقارن وضع التجارة قبل/بعد 2011، ويعرض تجليات الأزمة الراهنة، ويحلّل أثر الحرب، قبل أن يرصد ما يواجهه المزارعون والجهود الحكومية المطروحة. والغاية ليست إثبات أطروحة مسبقة، بل تجميع حقائق واتجاهات يمكن البناء عليها في السياسات.
الهوية الزراعية
حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، ظلّت الزراعة رافعة أساسية في الاقتصاد السوري. تُظهر بيانات البنك الدولي أن “القيمة المضافة للزراعة” شكّلت نسبة معتبرة من الناتج المحلي قبل عام 2011. وعلى الرغم من التراجع التدريجي في هذه النسبة مقارنة بتسعينيات القرن الماضي، إلا أن القطاع لم يفقد مكانته كبنية للتشغيل وتصدير الغذاء والصناعات المرتبطة به. ويؤكد ذلك أيضًا تقارير منظمة الفاو التي وثّقت مساهمة الزراعة بما يقارب ربع الناتج في نهاية التسعينيات وبدايات الألفية.
هذا الثقل التاريخي رافقه حضورٌ تجاري: كان القمح والقطن والزيتون والحمضيات مكوناتٍ راسخة في سلة الإنتاج والتبادل. وفي عام 2010، وهو آخر عام قبل الحرب، بلغت الصادرات السلعية السورية ذروتها الحديثة تقريباً، لكن سرعان ما تبعها انهيار وثقته لاحقًا تقارير الإسكوا.
من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد الثقيل
تقدّر الإسكوا أن الواردات هبطت بنحو 70% والصادرات بنحو 84% مقارنة بمتوسط ما قبل الحرب، وهو تغيّر لا يقتصر على الحجم بل على التركيب السلعي أيضاً، إذ مالت السلة نحو الأساسيات وتراجعت قدرة القطاعات المنتجة – ومنها الزراعة – على تصدير فائضٍ مستقر.
وتتأكد الصورة عند تفحّص جانب الواردات الغذائية الاستراتيجية: فبحسب نشرة GIEWS التابعة للفاو، تُقدَّر احتياجات استيراد القمح لموسم 2025/2026 بحوالي 3 ملايين طن، أعلى بنحو 70% من متوسط خمس سنوات. ما يعني ببساطة أن الميزان الغذائي يعود ليعتمد أكثر على الخارج كلما تراجعت الحصيلة المحلية.
أرقام تتحدث
مع نهاية موسم الحصاد في يوليو/تموز 2025، قدّرت منظمة الفاو الإنتاج الإجمالي عند 1.2 مليون طن، أي أقل بأكثر من 60% من المتوسط، نتيجة جفاف شديد وهطول مطري كان الأدنى في عشر سنوات. هذه ليست سنة استثنائية عابرة، بل إشارة إلى صدمة مناخية ممتدة تراكم العجز عامًا بعد آخر.
وتعزز هذا الاتجاه تقارير الصليب الأحمر والهلال الأحمر التي وثّقت أن البلاد واجهت في 2020/2021 أسوأ جفاف منذ سبعين عامًا، وهو ما ترك أثراً في مواسم لاحقة. على صعيد موسم 2024 فقد أشار التحليل القطري المشترك للأمم المتحدة إلى أن أمطار الشتاء كانت دون المتوسط بنحو 70%، مع أثر مباشر على المياه الجوفية والسطحية. وتقاطعت هذه النتائج مع تحليلات CSIS التي رصدت تراجع مناسيب الفرات إلى مستويات حرجة.
أما على صعيد القدرة الشرائية، فقدّر OCHA/WFP أن نحو 12.9 مليون سوري كانوا في حالة انعدام أمن غذائي عام 2024. أي أن الطلب في السوق بات مقيداً حتى عندما يتوفر الطعام. وتكتمل صورة الأزمة حين ننظر إلى الأسعار: فقد أظهرت نشرات برنامج الأغذية العالمي أن سعر طحين القمح تجاوز 10 آلاف ليرة للكيلوغرام صيف 2024، مع فروقات مناطقية واضحة، ما يعني تضخماً يعصف بقدرة الأسر الريفية والحضرية معاً.
هذه العناصر الأربعة – إنتاج منخفض، شحّ مياه، قدرة شرائية مضغوطة، وأسعار مرتفعة – تُشكّل “مربع الأزمة” الذي يدفع المزارع نحو الاكتفائية أو الخروج المؤقت من الدورة الإنتاجية.
أثر الحرب
الحرب لم تدمّر البنية التحتية فقط؛ بل جرّحت الاقتصاد الكلي الذي تعيشه الزراعة في سوريا. يُقدّر البنك الدولي الخسائر التراكمية للناتج المحلي بين 2011 ونهاية 2016 بنحو 226 مليار دولار – حوالي أربعة أضعاف ناتج 2010 – مع تأكيد لافت أن الخسائر الناجمة عن تعطّل الاقتصاد فاقت الخسائر المادية بأضعاف. أي أن “النسيج السوقي” نفسه تمزّق: طرق الإمداد، أسواق الجملة، رأس المال العامل، وتوقعات الربح.
إلى جانب الاقتصاد الكلي، هناك أثرٌ أمني مباشر على الأرض الزراعية: تلوث واسع بالذخائر غير المنفجرة يعرقل حراثة مساحات، ويزيد كلفة الإنتاج عبر الحاجة إلى المسح والسلامة. تقارير Landmine Monitor وHumanity & Inclusion أظهرت أن سوريا سجّلت خلال سنوات متتالية أعلى عدد عالمي من ضحايا المتفجرات. هذا ليس تفصيلاً إنسانياً فقط، بل عامل اقتصادي يجمّد هكتارات ويهزّ قرارات الزراعة.
ما بعد الاستعادة: مشاكل المزارعين
رغم انتهاء الحرب التي شنها نظام الأسد على الشعب السوري وزواله من سوريا، لم تستعد الزراعة عافيتها، بل واجه المزارعون جبهة جديدة من التحديات. أولها السلامة الميدانية، إذ تبقى مساحات واسعة خارج الخدمة بسبب الألغام، ما يفرض تكاليف مسحٍ وحذر مستمر (HI). وثانيها أزمة الطاقة والوقود التي جعلت تشغيل المضخات والآليات مرهونًا بوقود شحيح ومتقلّب السعر، ما انعكس مباشرة على أسعار الغذاء.
أما التمويل والمدخلات، فقد أصبح الوصول إلى بذار محسّن وأسمدة بأسعار مقبولة صعبًا في ظل قيود الاستيراد وندرة العملة، وهو ما وثّقته FAO/GIEWS. ولا يقلّ عن ذلك خطورة البعد المناخي، إذ جعلت نوبات الجفاف المتكررة تقطع المواسم، بينما تراجع منسوب الفرات زاد من هشاشة أنماط الري التقليدي (CSIS).
الاستجابة الحكومية وأعباء التعافي
اعتمدت الحكومة في موسم 2025 تسعيراً بالدولار لشراء القمح: 320 دولاراً للطن للقمح القاسي (درجة أولى) و300 دولاراً للقمح الطري، مع مكافأة إضافية بلغت 130 دولاراً لكل طن مسلّم. الهدف حماية حافز المزارع من تآكل الليرة وتثبيت التدفقات النقدية.
وفي الوقت ذاته، أعلنت الحكومة مناقصات لاستيراد 200 ألف طن كدفعة أولى، ضمن احتياجات استيراد متوقعة تصل إلى 3 ملايين طن (Reuters, Zawya).
إلى جانب ذلك، توسعت شراكات الفاو في إعادة تأهيل قنوات الريّ (أكثر من 60 كم في محردة–حماة) وتوزيع حزم بذار وأسمدة. كما دُمجت عمليات نزع المتفجرات في خطط الإنعاش الزراعي، بالتعاون مع FSCluster وHI. هذه الإجراءات حسّنت استخدام الموارد وخففت الضغط، لكنها ما زالت محدودة قياساً بحجم العجز. ومع محدودية هذه السياسات، تبقى الأسئلة الكبرى حول كيفية تحويل القطاع إلى رافعة للتعافي؟
من التشخيص إلى التعافي
الأزمة الزراعية في سوريا تكثيف لثلاثة مسارات متشابكة: صدمات مناخية متكررة عمّقت الجفاف وشحّ المياه، حرب دمّرت البنية التحتية ومزّقت النسيج الاقتصادي، وأوضاع معيشية أضعفت القدرة الشرائية ورفعت أسعار القوت الأساسي.
والنتيجة منظومة ضغط متزامنة جعلت الإنتاج يهبط إلى 1.2 مليون طن عام 2025، فيما تقفز احتياجات الاستيراد إلى ثلاثة ملايين طن.
أمام هذا الواقع، لا يكفي النظر إلى الزراعة بوصفها قطاعاً إنتاجياً فقط، بل بوصفها خط الدفاع الأول عن الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي والسيادة الوطنية. والتوصيات العملية التي برزت من هذا التشريح واضحة:
- جعل إزالة الألغام سياسة إنتاج لا مجرد ملف إنساني، لاستعادة كل هكتار مجمّد.
- اعتماد إدارة مائية مقتصدة عبر إعادة تأهيل القنوات وتشجيع الريّ الليلي والتنقيط.
- تبني تسعير محفّز وشفاف يربط شراء القمح بتكاليف المدخلات ويضمن سرعة الدفع.
- دعم سلاسل قيمة قصيرة تقلل فاقد النقل والوقود وتعزز مردود المنتج المحلي.
- حماية القدرة الشرائية للفئات الأضعف عبر منح غذائية ذكية إلى أن يتحسن العرض المحلي.
بهذه الأدوات يمكن تخفيف الضغط عن المزارع، وإعادة تنشيط الريف، وتحويل الزراعة من عبء متداعٍ إلى ركيزة تعافٍ. فالمسألة تتجاوز الحنين إلى ماضٍ وفير، بل حساب بارد للعائد على كل متر مكعب من الماء وكل ليرة تُنفق في وقتها. ويبقى الرهان على صانع القرار: هل يتعامل مع الزراعة كجبهة أمن وكرامة، أم يتركها مجرد ملف ثانوي في دولة منهكة؟
