الخيمة والخراب: لماذا لا يعود النازحون رغم "التحرير"؟

الوقت اللازم للقراءة:
7 minsيستيقظ الناس على إعلان بلادهم «حرّة»، وطاغيةٍ هارب، ونظامٍ استبدّ بهم وشردهم، ثم يفتحون العين الثانية على واقعٍ أبرد: بيوتٌ بلا أبواب، مدرسةٌ معطّلة، وعملٌ نادر. عند هذا المفصل، يبقى المخيم- على فقره- أقرب إلى معنى الأمان من بيتٍ بلا سقفٍ مهددٍ بالانهيار.
من جبل شحشبو في سهل الغاب في محافظة حماه خرج إبراهيم الخليل، متزوج ولديه أحد عشر طفلاً، عاملُ بحثٍ وإنقاذٍ في الدفاع المدني السوري منذ تأسيسه عام 2013. في موجة 2018 اضطر إلى النزوح نحو ريف حلب الغربي، نصب خيمةً لأسرته، وبقي في مهنته رغم قسوة العيش. قصةُ إبراهيم ليست استثناءً، بل مرآةٌ لآلافٍ لم يجدوا في «التحرير» شروط الحياة التي تبرّر العودة.

بعد التحرير، انتقل مقر عمله إلى مركز منطقة الغاب في مدينة السقيلبية، التي تبعد نحو 15 كم فقط عن قريته. ومع ذلك، ما يزال يقيم في المخيمات شمالًا، ويضطر لقطع مسافة 150 كم في كل مرة يلتحق فيها بعمله، بسبب انعدام مقومات الحياة في قريته التي دُمّرت بالكامل، بما فيها 170 منزلًا، وشبكات الكهرباء، والآبار، فضلًا عن المسجد والمدرسة. وهذا هو حال أكثر من 15 قرية في جبل شحشبو، جميعها مدمّرة وتفتقر لأدنى مقومات المعيشة.
خسر إبراهيم أيضًا بستان زيتون بمساحة سبعة دونمات، فيما خسر أهالي قريته أكثر من 60 هكتاراً من الزيتون والأشجار المثمرة، التي كانت تشكّل مع تربية المواشي مصدر دخل رئيسي للسكان. يقول إبراهيم إن فرحته بالنصر لم تكتمل بعدما شاهد قريته للمرة الأولى عقب سقوط النظام، إذ لم يتوقع حجم الدمار الذي محا معالمها بالكامل.
قصة إبراهيم ليست سوى مثال واحد من آلاف القصص المشابهة التي تعكس حجم المأساة. فما عاشه في قريته المدمرة وخسارته لمصدر رزقه هو الوجه الإنساني نفسه الذي يعيشه ملايين النازحين السوريين في المخيمات، والذين وجدوا أنفسهم بعد سقوط النظام أمام معضلة جديدة: هل يعودون إلى ديارهم رغم الدمار وانعدام الخدمات، أم يبقون في المخيمات التي أصبحت مأوى مؤقتًا دائمًا؟
ملايين النازحين في المخيمات
خلّفت الحرب في سوريا ملايين النازحين واللاجئين؛ إذ بلغ عدد النازحين داخلياً نحو سبعة ملايين وأربعمئة ألف نسمة، وهو أكبر تجمع نزوح داخلي بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. يعيش أكثر من مليوني نازح منهم في مخيمات داخل سوريا، وتحديداً في شمال وشمال غرب البلاد، ولا سيّما في محافظتَي إدلب وحلب. ويحلم سكان هذه المخيمات بالعودة إلى ديارهم فور سقوط نظام الأسد، الذي أجبرهم على النزوح منذ سنوات.
ومع شروق شمس الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، بدا أن حلم العودة يقترب من التحقق؛ فمع سقوط نظام الأسد وتحرير دمشق، غدت عودة النازحين مسألة وقت، وبات بإمكانهم العودة متى شاؤوا. غير أنّ هذه الفكرة اصطدمت بالواقع المرير وحجم الدمار الذي خلّفته الحرب طوال السنوات الأربع عشرة الماضية، خصوصاً أنّ أغلب المناطق التي ينتمي إليها النازحون كانت ساحات معارك أو خطوط تماس في أرياف حماة وإدلب وحلب.
حجم الدمار والعوائق أمام العودة
فقد دُمِّرت أحياء كاملة مثل القابون وجوبر في دمشق، وتعرّضت مدن وضواحٍ لتدمير جزئي مثل داريا وحرستا وعربين في ريف دمشق، وسراقب ومعرة النعمان وخان شيخون ومعرة حرمة في ريف إدلب، فضلًا عن تدمير مناطق واسعة في الغاب بريف حماة.
لا شك أنّ العمليات العسكرية التي شنّها نظام الأسد البائد كان لها دور أساسي في هذا التدمير، لكنّ جزءًا آخر تكشّف بعد عودة بعض النازحين لتفقّد بيوتهم بعد التحرير، وهو عمليات السرقة والتعفيش. ولم تقتصر هذه السرقات على الأثاث والمقتنيات المنزلية، بل امتدت إلى كل ما يمكن بيعه: من أسلاك الكهرباء داخل الجدران، إلى حديد الخرسانة المسلّحة في الأسقف والأعمدة البيتونية، وحتى تمديدات المياه.
كانت مجموعات الشبيحة تتعمّد تحطيم الأسقف أو الأعمدة لاستخراج الحديد وبيعه بمبالغ زهيدة مقارنة بحجم الخراب الناجم عنها. وتظهر الصور الجوية أنّ هذه العمليات، التي كانت مصدر تمويل رئيسي لعصابات الشبيحة وضباط جيش الأسد، كانت ممنهجة. فقد وصلت نسبة المنازل التي سُرق حديدها إلى 100% في بعض المناطق في معرة حرمة وريف المعرة الشرقي، وذلك بتنسيق مباشر مع ضباط النظام المسؤولين عن محاور القتال في ريفَي إدلب وحماة، مثل معرة النعمان، معرشورين، تلمنس، جرجناز، وأبو مكي.

ويُرجَّح أن نحو 30% من المنازل المدمّرة في ريفَي حماة وإدلب متضررة بفعل هذه السرقات، وهي المناطق التي تشكّل الموطن الأصلي لأغلب سكان المخيمات في شمال غرب سوريا، مما يعيق عودتهم.
وهنا يظهر السؤال الكبير: كم عاد فعلاً من النازحين بعد التحرير؟
كم عاد من نازحي الشمال؟
قال السيد رامز دقسي، رئيس دائرة الإحصاء في مديرية التنمية بإدلب، إن العدد الكلي للمخيمات في المحافظة قبل التحرير بلغ 1137 مخيمًا، معظمها متمركز في غرب وشمال غرب إدلب، وتحديدًا في ناحية الدانا وبلدة سرمدا وقرية أطمة ومنطقة حارم. وأضاف أنّ أغلب سكان هذه المخيمات ينحدرون من حماة وحمص وريف إدلب الجنوبي وريف حلب الجنوبي.

وأوضح دقسي أنّ 103 مخيمات أُفرغت كليًا وعاد سكانها إلى مواطنهم الأصلية، فيما ما يزال نحو 1030 مخيمًا مأهولًا. كما حدثت عودة جزئية متفاوتة من جميع المخيمات الأخرى، باستثناء بعض المخيمات الخاصة مثل مخيمات الأرامل والرعاية. ولا توجد إحصاءات دقيقة للعودة الجزئية لأنها متغيرة يوميًا، حيث تراوحت النسب في بعض المخيمات بين 20% و50% من إجمالي السكان.
وفي تصريح آخر، قال السيد بهاء مغلاج من مديرية التنمية في إدلب، إن المديرية نظّمت خلال الأشهر الماضية نحو 18 قافلة لعودة النازحين من المخيمات إلى قراهم، بالتنسيق مع المنظمات الإنسانية الشريكة، واستفاد منها نحو 1200 عائلة. وأشار إلى أنّ هذه القوافل شملت توفير سيارات لنقل الأثاث للنازحين غير القادرين على تحمّل تكاليف النقل بسبب ارتفاع الأسعار وضعف إمكانياتهم.

وأضاف أنّ بعض الخدمات الأساسية ما تزال متوفرة في المخيمات المأهولة، مثل مياه الشرب عبر الصهاريج أو الشبكات المحدودة، ونقاط طبية وعيادات متنقلة، إضافة إلى توزيع المساعدات الغذائية عند توفرها، وخدمات الصرف الصحي وترحيل القمامة.
ويرى بهاء أنّ أبرز أسباب تخلّف عودة النازحين تكمن في غياب البنية التحتية والخدمات في القرى، ودمار المنازل، وضعف فرص العمل، والخشية من الظروف المعيشية القاسية مقارنة بالمخيمات.
الواقع الخدمي سيّئ
رغم كل الدمار الذي أصاب المنازل والبنية التحتية، فإن أغلب النازحين ما زالوا يفضّلون العودة إلى بلداتهم حتى لو اضطروا إلى نصب خيمة بجوار منازلهم المدمرة، بدل البقاء في المخيمات. لكن الواقع الخدمي يفرض تحديات كبيرة.
تعاني مناطق واسعة من انقطاعات كهربائية تصل إلى 18 ساعة يومياً، هذا إن كانت الشبكات صالحة أصلًا، إذ إن معظمها إمّا سُرق أو تضرر بالقصف. ومع الانقطاع المستمر للكهرباء تتأثر إمدادات المياه مباشرة، حيث تعيش أغلب المناطق المحررة حديثاً أزمة مياه خانقة نتيجة تعطّل محطات الضخ أو غياب صيانتها، ما يدفع العائدين إلى شراء المياه من الصهاريج بأسعار مرتفعة لا يقدر معظمهم على تحمّلها.
ومع اقتراب العام الدراسي الجديد، يواجه الواقع التعليمي تحديات كبرى. فقد تعرضت مدارس كثيرة للتدمير، ما أخرج قسمًا كبيرًا منها عن الخدمة. وفي هذا السياق، قال الأستاذ لؤي النايف، المدير المساعد للتعليم الأساسي في تربية حماة، إن البنية التحتية غير الملائمة ونقص الخدمات الأساسية يشكّلان أبرز عوائق عودة النازحين. وأشار إلى أنّ عدد المدارس المدمرة في محافظة حماة بلغ 484 مدرسة بفعل الأوضاع التي خلّفها النظام السابق.

وأضاف أنّ نقص الكوادر الإدارية في ريف حماة يعود إلى دمار منازلهم وعدم قدرتهم على إعادة بنائها، وهو ما حال دون عودتهم، وبالتالي أثّر على استعادة العملية التعليمية. كما لفت إلى أنّ تسرب الطلاب من المدارس يشكّل تحديًا كبيرًا، بسبب اضطرار بعض الأهالي إلى تشغيل أبنائهم لتأمين متطلبات المعيشة، ولا سيّما أنّ فرص العمل أقرب إلى المخيمات منها إلى القرى المدمرة.

وختم النايف بالقول إن مديرية التربية في حماة، بالتعاون مع المنظمات المختصة، تسعى جاهدًة إلى توفير غرف صفية في المناطق التي يعود إليها النازحون، بما يمكّن الطلاب من متابعة تحصيلهم العلمي في بيئة مناسبة قدر الإمكان.
ختامًا
بين مأساة إبراهيم الخليل وأسرته، وحال آلاف القرى المدمرة، وأوضاع المخيمات الممتدة في شمال غرب سوريا، تتضح صورة واحدة: النازحون ما زالوا عالقين بين حلم العودة وواقع الدمار. فغياب دعم حقيقي لإعادة تأهيل البنية التحتية والخدمات الأساسية يجعل أغلب سكان المخيمات يعتقدون أنّ بقاءهم فيها قد يستمر لسنوات قادمة، على الرغم من سقوط النظام الذي كان سبب نزوحهم الأول.

