بعد حرب غزة: أين مصر مما يجري في " الشرق الأوسط الجديد"؟

آخر تحديث: 13 أكتوبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

10 mins

في ظل تحولات كبرى يشهدها الشرق الأوسط نجد مصر في القلب من هذه التحولات، والتي أبرزها إعادة صياغة خرائط المنطقة على وقع اندفاع المشروع الإسرائيلي نحو فرض هيمنة مطلقة. إذ يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرى نفسه أمام لحظة تاريخية يوسّع فيها حدود الكيان، مستندًا إلى حالة من الانكشاف العربي غير المسبوق.

فلم تعد هناك خطوط حمراء؛ فالعواصم والمدن العربية من دمشق وبيروت إلى صنعاء وتونس والدوحة، ومن العراق وإيران حتى رفح المصرية، تبدو مستباحة في ظل غياب رادع حقيقي. ويروج وزرائه ومجموعة من النخب لمشروع إسرائيل الكبرى.

كما يسعى نتنياهو لاحتكار تعريف “الشرق الأوسط الجديد”، مستندًا إلى واقع إقليمي تتسارع فيه الأحداث بشكل متلاحق، حيث تُمزّق العديد من العوامل الداخلية والخارجية دول المنطقة. وكما تخبرنا نعومي كلاين عن عقيدة الصدمة، غالبًا ما يتم تجاهل التراكمات الصغيرة التي تتحول إلى لحظات فارقة تُعيد تشكيل الموازين. وفي هذا السياق، يبقى السابع من أكتوبر محطة مفصلية؛ إذ لم يكن مجرد حدث عسكري، بل صدمة وجدانية لدى أجيال شابة دفعتها لإعادة تخيّل حدود القوة والإمكانات، بعيدًا عن المعادلات التي فرضتها موازين القوى التقليدية.

هذه الموجة من التخيّل السياسي لا تقتصر على فلسطين وحدها، بل تنعكس على المزاج العام في المنطقة بأكملها، حيث يتولد إحساس بأن ما كان يُعتبر مستحيلاً بالأمس قد يصبح واقعًا غدًا. من هنا، يمكن تفسير السلوكيات غير المألوفة التي أخذت تطفو في ساحات متعددة، كتعبيرات عن أثر ذلك اليوم الممتد. فقط كل ما في الأمر تتطلب الوقت الكافي حتى يتحول ذلك المخيال إلى فعل وحركة.

في وسط ذلك كله، تبدو مصر مكبلة، وكأنها خارج المشهد أو في قارة أخرى، بلا وزن يوازي موقعها أو تاريخها. فبينما تندفع إسرائيل لرسم خرائط المستقبل، تقف القاهرة عاجزة عن لعب دور رادع، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات كبرى حول مستقبل التوازنات، ومكانة مصر في معادلة إقليمية يعاد بناؤها بسرعة غير مسبوقة. فإسرائيل المكينة الحربية التي لم تتوقف منذ السابع من أكتوبر في أعلى جاهزيتها لشن حروب متعددة الأطراف بلا تردد وبلا حدود حتى أصبح يتحدث قادة إسرائيليين عن احتلال سيناء وفرض تهجير قسري لسكان غزة. 

الأمن القومي المصري والحدود الملتهبة

يمثل الوضع في قطاع غزة البُعد الأكثر حساسية للأمن القومي المصري، فتهجير سكان القطاع قسرًا نحو سيناء يمثل تهديدًا وجوديًّا للدولة ويدفعها نحو تغيرات كبيرة في سيناء فنزوح مليون أو نصف مليون إلى سيناء سيغير من ديموغرافيتها وسيؤسس لواقع داخلي يصعب على الجيش السيطرة عليه خاصة أنه خاض حربا طويلة طيلة عشر سنوات مع عدد من الجماعات المسلحة التي لا يتجاوز تعدادها ألفين وفي أقصى تقدير ثلاثة آلاف.

كنا أن الحركات الفلسطينية لن تتوقف عن استهداف إسرائيل سواء من داخل جغرافية فلسطين أو من خارجها. إن موقف وتعداد الجيش داخل سيناء المتأثر بمعاهدة كامب ديفيد تفرض واقعا أمنيا صعبا على الجيش المصري، فمصلحة الأمن القومي المصري نظريا تتمثل في دعم حركات المقاومة الفلسطينية لتكون كجدار دفاع أول عن مصر، غير أن سياسات القاهرة المتذبذبة بين إغلاق متكرر لمعبر رفح ومنع وصول المساعدات الكافية فتحت الباب أمام اتهامات بالتواطؤ، وأثارت موجة غضب داخلي متزايدة انعكست في الشارع المصري على شكل احتقان متصاعد ضد الموقف الرسمي. كما تحرص مصر على الالتزام بمعاهدة كامب ديفيد أكثر من إسرائيل بحسب التصريحات الرسمية المتكررة وكأن المعاهدة مرجع رئيس في التعاطي مع إسرائيل لا يمكن تجاوزه. 

ثم إن ربط أمن الطاقة المصري بالغاز الإسرائيلي يجعل مصر مرتبطة بأمن اسرائيل واستقرارها حيث يبلغ استهلاك مصر من الغاز الإسرائيلي نحو 15-20 بالمئة من اجمالي استهلاكها اليومي، وذلك قبل صفقة الغاز الأخيرة مع إسرائيل والتي قيمتها 35 مليار دولار. وبخلاف كون إسرائيل عدو في أدبيات الأمن القومي المصري، فإن صفقات إسرائيل ومشروعاتها التصديرية تمثل عنصر ضغط إضافي على مصر، التي تعاني أصلًا من أزمات اقتصادية متفاقمة.

هذه التطورات تجعل القاهرة في وضع دفاعي، خشية أن تتحول إلى مجرد ممر أو طرف ثانوي في معادلة الطاقة بالمنطقة. بالرغم من تعدد الوجهات التي يمكن أن تذهب إليها مصر كالجزائر وقطر وعدد آخر من الدول الأفريقية إلا أن النظام السياسي رجح كفة إسرائيل ليعقد موقف مصر في التعاطي مع إسرائيل. 

وفي أقاصي البحر الأحمر حيث يشن الحوثي هجماته على سفن الشحن في مضيق باب المندب، نجد أن ذلك أدى إلى تحويل مسار العديد من السفن التجارية بعيدًا عن قناة السويس، مما تسبب في تراجع كبير لإيرادات القناة التي تعد أحد أهم مصادر النقد الأجنبي للاقتصاد المصري. وبالرغم من التأثيرات السلبية التي تستدعي أن تدفع مصر لممارسة دورا أكثر صلابة نحو اسرائيل لوقف الحرب نجدها تذهب للتوسع في الاقتراض الخارجي بما ينعكس سلبا على اقتصاد الدولة.

أما في الجنوب، يفرض الصراع السوداني بين الجيش وقوات الدعم السريع تحديًا مباشرًا على مصر، التي تجد نفسها أمام حدود مضطربة وتهديدات متكررة لتدفق اللاجئين. ورغم أن هذه المعركة تمس عمق الأمن القومي المصري، فإن القاهرة اختارت سياسة الحذر والاكتفاء بالمتابعة عن قرب، ما سمح لقوى إقليمية أخرى بملء الفراغ وفي مقدمتهم الإمارات التي تقدم دعما مفتوحا لقوات الدعم السريع.

وعلى جبهة أخرى، يظل سد النهضة الإثيوبي هاجسًا وجوديًا، إذ يهدد أمن مصر المائي مباشرة. وقد أعلنت إثيوبيا عن افتتاح السد بشكل رسمي في 9 سبتمبر من العام الجاري وهو ما مثل واقعا صلبا يُصَعِب من موقف مصر السياسي والأمني وتعمل إثيوبيا على تحويله من مشروع إثيوبي إلى مشروع إقليمي من خلال تأسيس مشاريع مشتركة مع دول حوض النيل مثل توزيع الكهرباء المُولدة منه وتعزيز المشاريع الزراعية والصناعية مما يصنع كتلة إقليمية صلبة تصعب مهمة مصر في المستقبل، وذلك بالرغم من سنوات التفاوض، حيث لم تتمكن القاهرة من فرض تسوية تُراعي مصالحها، ما يعكس تراجعًا في أدوات الضغط الإقليمي التي كانت تمتلكها سابقًا.

وبالرغم من أن استقرار السودان سياسيا وترابط المصير بينهم يوجب عليها تبني مسارات أكثر جدية وحزم تجاه قوات الدعم السريع إلا أن النظام المصري لم يتعامل بنفس قدر حساسية الملف من زاوية أمنية سواء في مسألة استقرار السودان أو مواجهة أثيوبيا. 

أما في الغرب، فتتواصل أيضا تعقيدات المشهد الليبي بين معسكري حفتر وطرابلس، حيث تحرص مصر على دعم طرف ضمن تحالف مع الإمارات، في وقت تتزايد فيه تدخلاتها بشكل سلبي في السودان مما يطرح تساؤلات عن جدوى تلك التحالفات وارتباطها بالأمن القومي المصري، وإن كانت مصر تتحرك وفق سياسات تفادي الانزلاق في حرب مفتوحة أو بالوكالة، إلا أنه يترك الباب مفتوحًا لتقليص دور القاهرة في ملفات تمس عمقها الاستراتيجي.

رغم ضعف المعارضة المصرية في الخارج وتشتتها، يولي النظام لهذا الملف اهتمامًا يفوق وزنه الحقيقي. فالمعارضة لا تملك الأدوات ولا الإمكانيات التي تجعلها ندًا للدولة، لكن الخوف من تكرار سيناريو يناير ما زال حاضرًا في وعي السلطة، ليقودها أحيانًا إلى ما يشبه (عمى الأولويات). فبدل أن تُركز القاهرة على التهديدات الاستراتيجية التي تمس كيانها ومجتمعها واقتصادها، تستنزف طاقاتها في ملاحقة ملفات ثانوية ذات أثر محدود على الأمن القومي بالمعنى الشامل كما تقدمه ويعرفه النخب المحسوبة عليه.

هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًا، هل يُختزل الأمن القومي المصري في حماية النظام وبقائه، أم أنه يتعلق بأمن الدولة ككيان تاريخي ومجتمع متماسك واقتصاد متعافٍ؟ إن استمرار الخلط بين أمن النظام وأمن الوطن لا يعكس فقط ضيق أفق في تعريف التهديدات، بل يكشف أيضًا مأزقًا بنيويًا قد يجعل مصر أكثر عرضة للتحديات الكبرى التي تتجاهلها السلطة في حساباتها اليومية. 

بؤر من الأزمات!

تشكّل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة الوقود الأساسي للأزمة المصرية، حيث قفز الدين الخارجي إلى مستويات حرجة بلغت 155 مليار دولار حتى الربع الأول من العام الجاري، وتفاقمت معدلات التضخم في 2023 لتقضم القدرة الشرائية وتعمّق معاناة المواطنين. وتكشف الأرقام الرسمية أن 33.5% من المصريين كانوا تحت خط الفقر في عام 2021 وفق المنهجية الوطنية لقياس الفقر، وهو ما يعكس عمق الأزمة الاجتماعية. فيما إذا طبقنا منهجيات أخرى سنجد أن أكثر من 50% قد يدخلون خط الفقر. ويأتي ذلك وسط سياسات الحكومة برفع الدعم عن المواطنين في الكهرباء والخبز.

الأزمة لا تقف عند حدود الأرقام؛ فخروج الاستثمارات الأجنبية وتراجع شهية الشركات الكبرى للاستمرار في السوق يعكس أزمة ثقة في البيئة الاستثمارية ككل، التي صارت مثقلة بنقص العملات الأجنبية، وتعدد الجهات المتحكمة وتدخل الجيش في الاقتصاد بامتيازات حصرية تجعله المتحكم في السوق مما صنع بيئة اقتصادية طاردة للمستثمرين، فضلًا عن غياب استقرار السياسات. هذا النزيف الاستثماري لا يقل خطورة عن تراجع إيرادات قناة السويس، إذ يحرم الاقتصاد من فرص عمل ونمو مستدام.

وعلى المستوى الاجتماعي، تتفاقم الفجوة الطبقية بشكل حاد، بما ينذر بتآكل السلم الأهلي. كما يلوح شبح الاستقطاب الطائفي مع تحميل فئات بعينها مسؤولية دعم النظام، بينما تتواصل توترات بشكل شبه متكرر بين الشرطة أو الجيش والمنتمين للقبائل في سيناء ومرسى مطروح، مما تعكس العلاقة الهشة بين الدولة والمجتمع هشاشة الأمن الداخلي ذاته، بل إن تموضع تلك القبائل في مناطق حدودية تعمق من أزمة الملف وتجعله أداة محتملة للابتزاز والتدخلات الخارجية.

تتوازى هذه الضغوط مع موجات احتجاج متنامية في الخارج، أمام السفارات المصرية، يقودها أبناء الجاليات ومنظمات حقوقية، بالتوازي مع تسريبات حساسة من داخل مؤسسات الدولة تكشف حجم الاضطراب. هذه المؤشرات مجتمعة تقوض السردية الرسمية للنظام وتضعف قدرته على احتكار المشهد الإعلامي والسياسي، لتؤكد أن الأزمة المصرية لم تعد محصورة في الاقتصاد، بل أصبحت أزمة مركبة تهدد تماسك الدولة على أكثر من صعيد. وبالرغم من أن الأزمة الإقتصادية هي العنصر الرئيس في المشهد المصري إلا أن غلق المجال العام والممارسة السياسية تجعل باقي الأزمات ملتهبة وتدفع نحو ديناميكيات جديدة في المشهد الداخلي بمصر يصعب التنبؤ بها. 

خرائط المستقبل 

تأتي السياسيات المصري في ملفات حيوية في مشهد إقليمي يتزايد فيه نفوذ قوى كتركيا وإيران والسعودية، يجد النظام المصري نفسه أمام تحديات مضاعفة. فالتوترات الدولية المتصاعدة، من الحرب في أوكرانيا إلى احتدام التنافس الأميركي الصيني في بحر الصين الجنوبي، أعادت ترتيب أولويات القوى الكبرى، وقلّصت من اهتمامها باستقرار مناطق أخرى كانت تحظى سابقًا بقدر أكبر من الدعم والالتفات.

فهذا التحول في الأجندات الدولية يهدد استمرارية المظلة المالية والسياسية التي اعتاد عليها النظام المصري خلال العقد الأخير، إذ باتت الدول المانحة أكثر انشغالًا بأمنها المباشر وتوازناتها الاستراتيجية. ومع تراجع القدرة على توفير الدعم الخارجي بالزخم السابق، تبدو القاهرة مضطرة لمواجهة أزماتها الداخلية بموارد محدودة، وهو ما يفتح الباب على سيناريوهات أكثر هشاشة، ويضع السلطة أمام اختبار حقيقي في إدارة أعباء الداخل دون شبكة أمان خارجية كما كان الحال في السابق. ويجعل من فكرة الحلفاء الإقليميين موضع شك وسط خريطة شرق أوسط جديد تتشكل.

إن تجربة سوريا وما انتهت إليه من سقوط نظام الأسد يبدو أنها حملت رسالة ضمنية للنظام المصري بأن القبضة الأمنية وحدها لم تعد كفيلة بضمان الاستمرارية. فقد كان يُنظر إلى بقاء الأنظمة الاستبدادية باعتباره ضمانة ضد التغيير، غير أن المسار السوري كشف هشاشة هذا الرهان أمام ضغوط الداخل والإقليم والمتغيرات الدولية وما أسس له السابع من أكتوبر في المنطقة. هذا الواقع يدفع القاهرة بلا شك في التعامل بحذر أكبر، وربما لإعادة النظر في أدواتها، بحثًا عن مقاربة أكثر مرونة تُجنّبها سيناريو الانهيار المفاجئ، لكن مع ذلك لم يسلك النظام أي مسار جديد داخليا.

ثم إن استمرار انسداد المجال العام وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يرجح من احتمالات الانفجار الشعبي المرتقب بالرغم من عدم وجود أي مؤشرات في الشارع المصري على قدرته على تنظيم نفسه أمام السلطة، وهو ما يجعل كلفة الاستقرار الشكلي أعلى يومًا بعد يوم. بالرغم من وجود بعض المؤشرات على أن بعض المؤسسات السيادية تميل إلى صياغة سياسات خارجية أكثر استقلالية تراعي مصالح الأمن القومي المباشر، حتى وإن تعارضت مع حسابات النظام الحاكم لكنها لم تتحول إلى سياسات فعلية فصفقة الغاز مع اسرائيل سواء تمت أم لا تؤكد أن النظام حريص على ربط استمراره وبقائه بمعادلات إقليمية بمنئ عن الأمن القومي المصري ورغبة الشعب المصري.

الأكيد أن قدرة مصر على الاستقلالية في القرار السياسي تتراجع يوما بعد يوم، إذ باتت أكثر ارتهانًا للديون الخارجية وما تفرضه من ضغوط المانحين. بهذا المعنى، تبدو مصر أمام مفترق طرق، إما الاستمرار في إدارة الأزمات بالأدوات القديمة والتقليدية التي أثبتت محدوديتها، أو الدخول في إعادة صياغة أعمق لآليات الحكم والسياسة قبل أن يفرض عليها وقاع وتغييرًا غير محسوب. وفي كلا المساريين سيتوجب عليها إما صياغة تحالفات إقليمية جديدة تستدعي توترات مع الكيان الصهيوني أو تحمل تبعات ما سيتولد في الداخل المصري من الإصرار على الاستمرار على نفس السياسات الداخلية والخارجية. 

بالرغم من انكسار الموجة الأولى من الثورات، فإن الشعوب لا تزال قادرة على العودة إلى الشارع وإحداث تغييرات جذرية حين تتوفر الظروف المناسبة خاصة ما أحدثه السابع من أكتوبر من تغييرات في عقلية ومخيال الأجيال الصاعدة.