العقوبات ضد سوريا.. عصا النظام الدولي وجَزرته

الوقت اللازم للقراءة:
7 minsإذا مشينا في شوارع دمشق فلن تُخطئ أعيننا مقدار الفقر الذي يعانيه أهلها، أما إذا ذهبنا إلى بقية المحافظات وخاصة مناطق الشرق، فالأمر يتجاوز الفقر ليصل إلى حالة بين الحياة والموت تخيّم على سكان هذه المناطق.
وإن خطر للمرء أن يسأل عن سوء الحالة الاقتصادية في سوريا عبر العقدين الماضيين المتجذّرة صوره حتى اليوم، فسيُقال له ربما «الصراع» أو «الحرب الأهلية» أو سيطرة جماعة ما على مصادر الطاقة أو الغذاء أو غيرها من الأسباب التي تتعلّق بواقع الأمور على الأرض، وهي جزء من الإجابة، لكن ربما سيكون من النادر أن نسمع تلك الإجابة: لقد كانت العقوبات الأممية عامة، والأمريكية خاصة هي السبب، ولا تزال في هذه المعاناة الاقتصادية الشديدة.
فحتى بعد نجاح الثورة السورية في إسقاط الأسد، وانتهاء المعارك والصراعات نظرياً، تظل العقوبات الدولية قائمة، وتظل آثارها هي الأسوأ على الشعب السوري، والعقبة الأكبر أمام قدرة الإدارة الجديدة على التحرك لإنقاذ الاقتصاد والناس. حتى أصبح هذا الملف أول الملفات الذي تتحرك به الإدارة الجديدة في جميع المحافل.
فمن أين أتت هذه العقوبات؟ ومن يفرضها تحديداً؟ ولماذا لم تُرفع للآن رغم زوال أسبابها؟
العقوبات الاقتصادية … عصا النظام الدولي
تُعد العقوبات ركيزة شبه أساسية في النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد ظهرت مع نشأة “عصبة الأمم” عام 1920، واُعتبرت «أداة من أدوات السياسة الخارجية» للدول الكبرى، ومن ثم استُخدمت لتحقيق ما تعجز عنه الحرب، أو للدقة: لتجنّب الدخول في الحرب مع استنزاف الدول المارقة اقتصادية.
أي أن هذه العقوبات قد صُممت للضغط على الدول المقصودة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، من خلال وقف التبادل التجاري والمالي والعسكري معها، بل وعزلها دولياً، بما يدفعها في النهاية للرضوخ أمام النظام الدولي، وتحقيق ما هو مطلوب منها كي تصبح دول طيّعة ومتعاونة ومُستجيبة لما يطلبه الكبار.
في البداية، كان الهدف المعلن للعقوبات هو «الحفاظ على السلام الدولي»، وإن لم يتحقّق كما هو واضح. ثم مع الوقت، أدركت الدول الكبرى سريعاً فوائد العقوبات لاقتصاداتهاً ومكانتها العالمية، وحولّتها إلى أداة حرب لا تُطلق فيها الرصاصات لكنّها تقتل الناس بالحصار الاقتصادي والجوع والبرد والأوبئة.
تاريخ سوريا مع العقوبات
تعرّفت سوريا على العقوبات للمرة الأولى في عام 1979م، عندما أدرجتها الولايات المتحدة على قائمة الدول «الراعية للإرهاب». كان السبب المعلن هو سعي سوريا للحصول على أسلحة «دمار شامل»، وفي خلفيته كانت الأسباب تترابط ما بين توطّد علاقة سوريا بالاتحاد السوفيتي سابقاً، ودعمها فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالطبع، التعاون مع “الجمهورية الإسلامية” الناشئة حديثاً في إيران.
لن يتغيّر وصف سوريا كدولة راعية للإرهاب لاحقاً، بل سيكون مدعاة لمراكمة مزيد من العقوبات، بدءً من عام 2003، حين تم تمرير القانون الأمريكي المعروف بـ «قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية» الذي أصدرته إدارة جورج بوش الابن نتيجة ما اعتبرته التدخّل العسكري السوري المتكرر في لبنان، مع فرض إجراءات اقتصادية مشددة على نظام الأسد، وقد شمل ذلك: تجميد الأصول السورية في أمريكا، ومنع الصادرات وحظر الطيران الأمريكيين إلى سوريا، كما فرض عقوبات على مؤسسات وأفراد سورية عدة.
لكن العقوبات الأمريكية لم تمس واردات النفط السورية حتى ذلك الحين، وعلى الرغم من أنها سمحت بصادرات الطعام والأدوية إلى سوريا، إلا أن التضييق الاقتصادي سرعان ما سينال من أبسط تفاصيل حياة السوريين، وسيزداد مع الجولة الجديدة من العقوبات التي ستُفرض على نطاق واسع مع إنطلاقة الثورة السورية في 2011م، لكن هذه المرة من كل من الولايات المتحدة وأوروبا معاً.
ففي حين ستوسّع أمريكا من نطاق تنفيذ عقوباتها السابقة، وستضيف إليها حظر استيراد النفط، وحظر الاستثمارات الجديدة في سوريا، سيقوم الاتحاد الأوروبي بإجراءات شبيهة، وسيضيف إليها أيضاً حظر تصدير التقنية والمعدات الإلكترونية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت سوريا «14 عاما من الصراع والحرب مع العقوبات» التي ستتخذ منها المؤسسات الدولية لاستنزاف نظام الأسد، دون أن تكترث بأثر ذلك على حياة السوريين والدمار الاقتصادي الذي حل بسوريا.
وقد بلغت هذه العقوبات ذروتها في 2019 بقانون «حماية المدنيين السوريين» المعروف عالمياً بـ “قانون قيصر”؛ نسبة إلى تسريبات قيصر التي أوردت آلافاً من صور المعذبين والقتلى السوريين في معتقلات الأسد، وأدت بالولايات المتحدة إلى فرض عقوبات إضافية على أي أفراد أو كيانات تُقرض الأموال للحكومة السورية أو تستثمر في القطاعات الحيوية للاقتصاد السوري مثل الطاقة والبناء وغيرهم.
أثر العقوبات على الحالة السورية
أدّت هذه العقوبات إلى ذروة المأساة الاقتصادية السورية، والنقطة الحرجة التي انقطع معها الاقتصاد السوري عن العالم بشكل شبه كلي، وبدأت سلسلة من الهبوط الحاد للاقتصاد والعُملة السورية، وبالطبع مزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية لعامة السوريين.
ولم يكن السبب في هذا الانهيار الاقتصادي الحاد سببه أن هناك عقوبات زادت على سوريا وحسب، بل يتصل بكون الولايات المتحدة هي من أصدرتها. إذ تنقسم العقوبات الدولية إلى قسمين: العقوبات المفروضة من منظمات أممية مثل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، والعقوبات التي تفرضها الدول مثل الولايات المتحدة أو الكيانات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي.
وتظل العقوبات الأممية، بشكل ما، مرهونة بقدرة الدول على تنفيذها أو رغبتهم في ذلك. أما تلك العقوبات التي تفرضها قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، وبما إنها تمتلك القدرة على تنفيذها وجعلها واقعاً دولياً، كما تستطيع معاقبة الدول التي لا تلتزم بها بمزيد من العقوبات، مثل هذه العقوبات تصبح خنجراً في ظهر العالم، وحجر عثرة أمام محاولة بعض الدول التهرب من قيود النظام الدولي.
وفي الحالة السورية، فقد منحت الحرب على السوريين والأسلحة الكيمياوية التي راح ضحيتها الأطفال والناس على شاشات التلفاز، وصور آلاف القتلى المسرّبة إلى العالم، كل هذا منح دول عدة سبباً إضافية في الاستجابة للعقوبات. ولم يدفع الثمن في النهاية سوى السوريين أنفسهم قبل التحرير وبعده.
وفي تقرير البنك الدولي الصادر هذا العام، 2025م عن آثار «الصراع» والعقوبات على الاقتصاد السوري، كانت النتائج كارثية على أقل تقدير. فقد أدت الـ 14 عاماً الماضية من الحرب والعقوبات إلى نزوح أكثر من نصف السكان، مع وجود أكثر من ثلثي السكان تقريباً يعيشون تحت خط الفقر، وتقلص سعر صرف الليرة باستمرار ما أدى لمزيد من التضخم والذي ضاعف بدوره معاناة السوريين. كل هذا دون البدء في ذكر الأضرار في البنية التحتية السورية نتيجة حرب النظام على المدنيين، والتي جعلت من إعادة إعمار سوريا عملية شديدة الكلفة على الإدارة السورية الجديدة، بتقدير يتراوح ما بين 140 إلى 345 مليار دولار أمريكي.
لماذا استمرت العقوبات؟!
قد يقول قائل أن كل هذا بالفعل نتيجة لأفعال النظام السابق، فما فعلت العقوبات تحديداً؟ حسنا.. ليس هذا الرأي بمعزل عن رؤية شبه عالمية لسوريا أو للعقوبات، ففي التقارير الدولية الخاصة بالحالة الاقتصادية في سوريا، تُذكر العقوبات كنتيجة لـ «14 عاما من الصراع»، وظلت هذه السردية على حالها لم تتفكك إلا قريباً جداً، ومع ظهور التقارير والكتب والدراسات الحديثة التي تقول بشكل صريح وللمرة الأولى أن العقوبات الدولية “سلاح أكثر فتكاً من أدوات الحرب التقليدية“، وأنها السبب في وفيات نصف الأطفال في الدول التي تُفرض عليها، ورفع الوفيات في باقي الفئات العمرية، كما أن العقوبات الأمريكية خاصة هي الأشد فتكا من تلك المفروضة أممياً.
كانت هذه النتائج هي لدراسة طويلة المدى أجرتها مجلة لانست البريطانية فيما بين عامي 1971 و 2021، في 152 دولة، لكن وبما أن هذه الدراسة لم تتناول سوريا بشكل خاص، فلنذكر تقريراً آخر، هذه المرة من منظمة “الإسكوا” أو لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، والتي أجرت استطلاعاً للرأي خاصاً بـ «الآثار غير المتعمدة للتدابير القسرية الانفرادية» ضد سوريا. لم تقل النتائج قسوة.
وأكد التقرير أن العقوبات الفردية ضد سوريا قد نالت من الأفراد من جميع الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، وأثرت بشكل مباشر على حياتهم اليومية من خلال تعطل الخدمات المالية والطاقة، وضعف إن لم يكن الحد من وصول إمدادات المياه والصرف والصحة، وتعطل وصول المساعدات الإنسانية، وارتفاع تكاليف المعيشة.
يمكن القول أن العقوبات هي السبب في هذا؛ نعم. لكن ما هو أكبر من العقوبات كان شدة امتثال الأفراد والمؤسسات للعقوبات المفروضة، خوفاً من التعرض لعقوبات، ما أدّى مع الوقت وتشديد الإجراءات إلى تعثر العديد من الخدمات وعدم وفاء ما هو معروض من مواد وخدمات باحتياجات الناس اليومية.
تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق صعب، فرغم رفع جزء من العقوبات الأمريكية والأوروبية على الإدارة الجديدة، وبدء المسار التشريعي الأميركي لإلغاء عقوبات قانون «قيصر» التي شكّلت لسنوات الأداة الأشد خنقاً للاقتصاد السوري، إلا أن التخوف العام لا يزال من قائماً ويمنع من تعامل المؤسسات والدول مع الحكومة السورية خوفاً من العقوبات، وهو ما جعل اتفاقيات التفاهم التي أجرتها مع دول عدة، لا تتعدى كونها حبراً على ورق.
ولإزالة العقوبات بشكل فعلي وكامل، وبدء عمل خطط التنمية، تنحو سوريا إلى الانفتاح على المجتمع الدولي والامتثال لتقاليده، وهو ما يتجلى واضحاً في سياسات سوريا الخارجية المعلنة منذ سقوط النظام.
لكن ثمة تخوف آخر من هذا السبيل بأن تنفتح سوريا إلى اقتصاد حُرّ غير مؤهلة له يهدر مقدراتها الوطنية. كما أن هذه الحزمة من السياسات الاقتصادية دوماً ما تتصل بتحالفات سياسية وعسكرية مغايرة للبوصلة السورية المأمولة بعد التحرير، وفي القلب منها ملف إسرائيل وما يتصل به. فكيف ستتصرف سوريا مع هذه الملفات المعقدة؟! … هذا ما سنعرفه في قابل الأيام.

