لماذا لا يحتفلون بالنصر؟!

الوقت اللازم للقراءة:
4 minsعشية 8 كانون الأول 2025، بدت سوريا كبلد يلتقط أنفاسه للمرة الأولى منذ نصف قرن؛ في المدن والساحات، ارتفعت الأعلام وترددت الأهازيج، معلنة سقوط نظام حكم نظام الأسد بعد 50 عاماً من القمع و 14 سنة من الدم والحصار.
خرج السوريون ليصوغوا لحظة جامعة، رأوا فيها نهاية حقبة ثقيلة وبداية مسار مختلف للدولة والمجتمع. غير أن هذا المشهد الاحتفالي لم يكتمل على امتداد البلاد؛ فبينما امتلأت الساحات بالهتاف، اختارت فئات وقوى أخرى الوقوف خارج اللحظة، وذهبت إلى أبعد من المقاطعة، عبر تعطيل الاحتفال ومنع أي تعبير علني عنه في مناطق نفوذها. كما كان الحال في المناطق التي تسيطر عليها قسد
ولعل الأنكى من ذلك كان إجراء قيادي قسد مظلوم عبدي مقابلةً قُبيل احتفال النصر يوم 8 كانون الأول مع صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية التي صعّد فيها من لهجته تجاه دمشق، معتبراً أن المسار القائم داخل سوريا يوجب استمرار الضغوط الأميركية والدولية، وعدم تقديم أي دعم غير مشروط للقيادة السورية، محذراً في الوقت نفسه مما وصفه بتصاعد خطر استهداف الأقليات. وكأنه يرسل رسالة لا لبس فيها، إذا نظرنا للصحيفة التي وافق على مقابلتها وما قاله لها وتوقيته، إنّ نصر السوريين يسوءه.
بكل حال، دعا عبدي في المقالة إلى إعادة تفعيل أدوات الضغط الأمريكية على دمشق، وقال: «نحن بحاجة إلى نقاش أوسع حول عقوبات قيصر. الدعم يجب أن يكون مشروطاً، والدعم الأميركي يجب ألا يكون غير مشروط. في الوقت الحالي، لا توجد أي شروط مفروضة على أحمد الشرع».
ومع هذا المطلب، حرص عبدي على تقديم قواته كنموذج بديل عن بنية الدولة السورية، قائلاً : «قوات سوريا الديمقراطية هي تحالف من الأكراد، وعرب علمانيين، ومسيحيين، ومكونات إثنية مختلفة» لافتاً إلى أن لديهم «مشكلات داخلية أقل، وصراعات أقل، وخلافات أقل، وطائفية أقل داخل قواتنا» لأنهم متنوعون بحسب وصفه.
وأبى إلا أن يُشرك في أمره فئاتٍ كان منها من أضمر السوء للسوريين، أو حتى جاهر بعداءه، بقوله إن هذا النموذج يحظى بقبول مجتمعي أوسع: «العلويون والدروز يدعمون قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك العرب السوريون العلمانيون».
يعكس خطاب مظلوم عبدي مقاربة تصادمية واضحة مع الدولة السورية، تقوم على ثلاث ركائز متداخلة: شيطنة الحكومة السورية والتشكيك بقدرتها، وتدويل ملف الأقليات، واستدعاء العقوبات كأداة سياسية دائمة وهذا ما يتناغم مع تحركات غيره في التموضع.
وبالتوازي؛ دعا الشيخ غزال غزال رئيس ما يسمّى “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” العلويين إلى مقاطعة احتفالات إسقاط نظام الأسد في 8 كانون الأول، معلناً أن السلطات الحالية “تحت شعار الحرية تريد الاحتفال بالإكراه باستبدال نظام ظالم بنظام أشد ظلماً”.
وأضاف: «اعتقلوا وقتلوا وذبحوا وخطفوا وحرقوا… والآن يهدّدون لقمة العيش، ويجبروننا قسراً على المشاركة باحتفالات بُنيت على دمائنا وآلامنا وأوجاعنا… وتكميم أفواهنا».
وفي بيانه؛ أعلن غزال أن الرد سيكون «سلمياً وواضحاً»، عبر إضراب عام وشامل لمدة 5 أيام يبدأ في 8 كانون الأول وتمتد حتى 12 منه، مع التزام البقاء في المنازل، وذلك «رفضاً لتمكين ظلم جديد أشد بطشاً وأكثر استبداداً وإقصاء وقسوة».
أما في الجنوب، فيستمر حكمت الهجري بتمرده وعدم قبول أي تسوية وما زال يدعو إلى إقليم منفصل لـ محافظة السويداء، ويعتبر أن الأحداث التي مرّت بها السويداء تهدف إلى «إبادة الطائفة الدرزية»، داعياً دول العالم للوقوف معها.
في الخلفية القريبة، يبرز الدور الإسرائيلي كعنصر فاعل في تغذية هذا التموضع. فالاحتلال الإسرائيلي يعمل على تكريس مقاربة «رعاية الأقليات»، ويقدّم نفسه كضامن أمني وسياسي في مواجهة أي سلطة مركزية سورية تمتلك مقومات القوة والاستقلال. هذه المقاربة تجد امتداداتها في الجنوب كما في الشمال الشرقي، حيث تتقاطع مصالح الاحتلال مع قسد في إضعاف المركز، وتعميق الشروخ داخل المجتمع السوري.
ضمن هذا السياق، يتحوّل سلوك الثلاثي – قسد في الشمال، والهجري في الجنوب، وبعض المرجعيات العلوية في الساحل – إلى مسار يصب عملياً في مصلحة المشروع الإسرائيلي، سواء بالإدراك المباشر أو بوهم الحماية. فرفض الاندماج، والدفع نحو الكيانات المنفصلة، واستدعاء الخارج تحت عنوان الأقليات، كلها عناصر تخدم هدف منع تشكّل دولة سورية موحّدة قادرة على استعادة سيادتها والبدء بنهضتها.
بالعودة إلى الداخل السوري، يرتبط الغياب عن الاحتفال بطبيعة التحوّل الذي أصاب مركز الحكم في سوريا. ما جمع قسد وبعض المرجعيات العلوية و الدرزية اصطفاف واضح خارج المزاج العام الذي ساد المدن السورية في 8 كانون الأول، وتمسّك بقراءة مختلفة لمعنى السقوط ومعنى النصر.
الخيط الناظم بين هذه المواقف يتصل بالهوية أكثر من اتصاله بالسياسة. فالسلطة الجديدة تُقرأ لديهم كتحوّل يطال البنية السياسية والاجتماعية والدينية للدولة، لا كمرحلة عابرة في مسار الحكم. هذا الإدراك حوّل يوم التحرير من مناسبة يليق بها الفرح إلى لحظة ارتياب لديهم، فتراجعت مظاهر الاحتفال في مناطقهم لصالح خطاب التحفّز والإنذار.
في جوهره، هذا التموضع يعكس اصطفافاً إلى جانب مسار خاسر في حركة التاريخ، تغذّيه هواجس أقلوية متوارثة وعُقد تشكّلت على مدى عقود من الامتياز والسلطة. وبدل التقاط لحظة التحوّل والانخراط في واقع جديد، جرى الاحتماء بسرديات الخوف، ما أعاد إنتاج العزلة، وكرّس القطيعة مع المزاج السوري العام الذي خرج إلى الشوارع ابتهاجاً بانتهاء حقبة مثقلة بالقمع والفقر، مرحلة مثّلت زمن الامتياز والسلطة لفئةٍ متغوّلة، وهو ما يفسّر هذا العزوف الصريح عن الاحتفال بالنصر بوصفه انتصاراً لا ينسجم مع ذاكرتهم السياسية ولا مع خسارتهم لمركز الهيمنة أو طموحات الإنفصال.
