مناوشات ما قبل الحرب: سوريا في مواجهة عقيدة إسرائيل القتالية الجديدة!

آخر تحديث: 30 نوفمبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

8 mins

“من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه” قاعدة شرعية لا يكاد يخلو كتاب من كتب القواعد الفقهية منها، لكنها من القواعد التي يمكن تلمسها في العلوم السياسية والخطط الاستراتيجية. أي أنّ من تعجّل مرحلة قبل توفّر أسبابها الصحيحة فإنّ النتيجة قد تكون عكس ما يريد، سواء في قرارات السِّلم أو الحرب أو الدبلوماسية أو الاقتصاد.

وهذا الأمر أظهر ما يكون في الحالة السورية. إذ يكاد استعجال الانتقال من الحالة الثورية الإسلامية إلى الحالة الدولتية المؤسساتية، والتي تتطلب توافر عوامل التمكين غاية من الآن، يحرم الدولة الوليدة من عوامل الصمود أمام المؤامرات والضغوطات ويفرض عليها حالة من الانكشاف والإكراه. إذ يبقى الزخم الثوري الإسلامي ضامن لانفراط العقد عند أي منعطف خطير أو أزمة من الأزمات.

وإذا أردنا إلى خارطة الأخطار في سوريا، فيتصدر الخطر الإسرائيلي هذه الأخطار مجتمعة. ودروس فلسطين مع الاحتلال تخبرنا بأنه يُخشى من الاستغراق في حالة التفاوض التي يماطل فيها الاحتلال لفرض الواقع الأمني الأمثل بالنسبة له بضمانة أمريكية، بينما الضامن الأمريكي -عند المحك العملي- غير ضامن للسلوك الإسرائيلي، وهو ما صرح به المبعوث الأمريكي توم باراك من العاصمة اللبنانية بيروت بقوله: “لا نستطيع إجبار إسرائيل على القيام بأي إجراء”، وبرهان قوله الاعتداء على العاصمة القطرية الدوحة، والتي تُصنف واحدة من أكبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.

أحد المخاطر المحتملة في هذا السياق من الجانب الإسرائيلي، خطورة شنه عمليات اغتيال الجماعي قد يلجأ إليها لفرض إيقاعه في سوريا، على غرار ما فعله في غزة ولبنان وإيران، وخاصة مع قادة حزب الله، حيث تحولت الاغتيالات بعد “السابع من أكتوبر” من عمليات تكتيكية إلى حجر أساس في العقيدة القتالية الإسرائيلية القائمة على “ضرب الرأس لا الذيل”، والتي يتبناها رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير، وذلك بهدف تفكيك البنية القيادية لدى الخصوم وإفقادهم الفاعلية في إدارة الصراع.

درس المحور الإيراني وحزب الله: الانكشاف الأمني وسوء التقدير

في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023م دخل حزب الله معركة “إسناد غزة” محكوماً بقواعد اشتباك تُبقي المواجهة دون عتبة التصعيد، بينما عمل الاحتلال الإسرائيلي على امتصاص الهجمات وإقناع قيادة الحزب بعدم رغبته في شن حرب، وأدخله في مسار تفاوضي برعاية الوسيط والضامن الأمريكي، ليكون أشبه بمحور إشغال عن محور الجهد الرئيسي المتمثل في اغتيال منظومة قيادة الحزب بعد مراقبة تفصيلية شديدة لشبكات الحزب العنقودية.

فمنذ كانون الثاني/يناير 2024م، بدأ الاحتلال تباعاً تنفيذ عمليات اغتيال دقيقة طالت قادة بارزين في الجناح العسكري لحزب الله، منهم قادة قوة الرضوان النخبوية ومسؤولي المناطق والإمداد ومستودعات الأسلحة الاستراتيجية، مروراً بعملية تفجير أجهزة النداء “البايجرز” التي أدت إلى إصابة أكثر من 2750 عنصراً من حزب الله في مستويات تنظيمية مختلفة، ووصولاً إلى اغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله ثم خليفته هاشم صفي الدين وجمع من كبار القادة في المستويات العُليا والوسيطة. وأمام محاولات الحزب للرد، كان الاحتلال متقدماً عليه دائماً بخطوة استخبارية ليبطل الرد في مهده، في معركة مفتاحها الرصد والمتابعة والمبادرة.

أما على الجانب الإيراني، بدأ الاحتلال الإسرائيلي في 13 حزيران/يونيو 2024م هجمات متزامنة على إيران أسفرت في ساعاتها الأولى عن مقتل قادة من كبار العسكريي، كان أبرزهم قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري و7 من قادة القوة الجو-فضائية بمن فيهم قائدها اللواء أمير علي حاجي زاده، إلى جانب عدد من العلماء النووين، فضلاً عن محاولتي اغتيال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وعلي شمخاني مستشار المرشد علي خامنئي.

عكست وتيرة هذه الاغتيالات في مدة زمنية قياسية انكشافاً أمنياً غير مسبوق في تاريخ الصراع الممتد بين الطرفين منذ ثمانينيات القرن الماضي. ويمكن إرجاع هذا التحول إلى اطمئنان حزب الله وإيران لانشغال الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في “الحرب على الإرهاب”، وظنهم بوجود هامش من الحرية قد أُتيح لهما في المنطقة والذي بلغ ذروته منذ مشاركتهما في دعم نظام الأسد ضد الثورة السورية. بينما -في مقابل هذه الغفلة- رصد الاحتلال الإسرائيلي طوال هذه السنوات تحركات حزب الله والحرس الثوري الإيراني بين العراق وسوريا ولبنان بيقظة تامة، وحصل على بنك أهداف كبير وضع الحزب والحرس في حالة انكشاف تام.

وبدلاً من الاستفادة مما حصل مع حزب الله، إلا أن تكرار نمط اغتيال منظومة القيادة الإيرانية أكد أن القيادة العسكرية والأمنية في طهران لم تدرس ما حصل في لبنان جيداً، كما لم تستعد لمثل هذا السيناريو الذي كان بالإمكان التنبؤ به، بينما يعتمد العدو الإسرائيلي هذه السياسة اختصاراً لمعركة استنزاف طويلة ولمنع الخصم من الرد الفعال.

ما الفارق في الحالة الغزية؟

في مقابل ذلك، أبرزت الحالة الغزية نمطاً مختلفاً من اليقظة التي أسست لنجاح الخداع الاستراتيجي في معركة طوفان الأقصى، فقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية على مدار سنوات من اليقظة منعة أمنية استطاعت من خلالها إدارة الحرب بكفاءة، رغم ضيق مساحة قطاع غزة والحصار المفروض عليه وطول أمد المعركة.

ورغم تعرض قيادة المقاومة السياسية والعسكرية لعمليات اغتيال مماثلة لما تعرض له حزب الله، إلا أن الفارق أنها حصلت في إطار زمني أوسع ولم تفقدها فاعليتها في الميدان. فإلى جانب شبكة الأنفاق الممتدة التي تساعد على التحصن والاختباء، فإن دوام التماس العملياتي مع الاحتلال منذ تحرير قطاع غزة أكسب المقاومة وبيئتها الشعبية يقظة أمنية جِبِلّيَّة غابت لدى حزب الله تحديداً منذ أن دخل مطمئناً في مستنقع الحرب في سوريا، رغم تفوق الحزب على مستوى العتاد.

لقد ألِفت المقاومة وقادتها العمل تحت زنين طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المسيرة، كما حافظت أجهزتها الأمنية على العمل الدؤوب في مكافحة خلايا العدو التجسسية، فضلاً عن أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، وكرست الحالة الغزية ساحة حرب أمنية تغلب على نمط المواجهة المفتوحة، وأمنت شبكات اتصالها بعيدًا عن أيدي المساد وعملائه.

وفي المقابل، عمل حزب الله بين لبنان وسوريا في ظل ضوء أخضر من الأجهزة الأمنية الرسمية، وتحرك قادته وكوادره عبر الحدود دون ظروف أمنية ضاغطة، وعملت مجموعاته القتالية إلى جانب نظام الأسد تحت غطاء جوي سوري- روسي، في معارك مفتوحة تطبّع بها مقاتلو الحزب وكادره. وبين عامي 2011 و2024، كانت إسرائيل تراقب كل ذلك، وأطلقت في مرحلة لاحقة سياسة “الحرب بين الحروب” للحد تدريجياً من نفوذ حزب الله والحرس الثوري الإيراني، ومع بدء حربها على لبنان كان بنك أهدافها قد اكتمل وفق قاعدة بيانات متجددة بفعل عوامل الرصد والربط.

ثغرات في الحالة السورية: كيف يعمل الاحتلال؟

من خلال استقراء مسار المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى، يتبين لنا أن الاحتلال استغل في اغتيالاته النوعية والجماعية العديد من الثغرات، أبرزها:

  • استخدام الشخصيات المستهدفة للهواتف المحمولة.
  • تساهل الكوادر في النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  • اعتماد نمط “المساكن الجماعية” أو عقد اجتماعات مركزية لأغلب القيادات في مقار محددة.
  • سوء فهم وتقدير السلوك الإسرائيلي المستحدث بعد “السابع من أكتوبر”.
  • الاطمئنان لعمليات التفاوض كضمانة مانعة من الاستهداف.

وبالنظر إلى مجريات الأحداث اليومية في الجنوب السوري، يتضح لنا أن الاحتلال الإسرائيلي يعمل على إدامة التماس المعلوماتي والعملياتي في مسرح العمليات ومناطق انتشار قواته، ويحافظ على تشغيل قواته لإبقائها في حالة جاهزية عالية.

ومن خلال ما سبق، يستطيع الاحتلال ملئ بنك أهدافه من خلال تعزيز مصادره البشرية وزرع وسائط التجسس على الأرض ونشر حواجز ودوريات يومية في مناطق التوغل، فضلاً عن قدرات الرصد والاستطلاع الجوية التي تطال كامل الأراضي السورية. كما يحمي الاحتلال حضور ميليشيات محلية رديفة له ذات انتماء طائفي أو قومي أقلّوي، على غرار ميليشيات الهجري في السويداء، وبكل ذلك يبقي منطقة الجنوب تحت المتابعة لمنع تشكل أي تهديد، وإحباط التهديدات الناشئة في مهدها مباشرة.

توصيات مقترحة

يتميز المنهج القرآني في التربية بكونه لا يقتصر على التوجيه الفقهي المجرد، بل يتعداه إلى التوجيه النفسي الذي يصقل الشخصية المسلمة، لتكون قابلة على خوض معترك العمل المتعدّي على الصعيدين الداخلي والخارجي بكفاءة. وقد جاء النص القرآني في سياق تشريع صلاة الخوف بالحض على الحيطة والحذر، وذلك في قول الله تعالى ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ [سورة النساء 102] ما يمثل تعبئة روحية للصف المسلم تجاه العدو الذي يتربص بالمؤمنين لحظة غفلة ليميل عليهم ميلة واحدة.

من الطبيعي أن تحرك هذه التعبئة ما في النفس البشرية من رواسب الخوف الفطري، ولذلك أعقبها في الآية نفسها نص واضح في طمأنة المؤمنين وتثبيتهم، فقال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾. ويفسر سيد قطب هذا التقابل بين التحذير والتثبيت بكونه التوازن المطلوب “بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم”.[1] وأمام هذا التوازن المطلوب بين “الحذر والثقة”، لا “الاستخفاف أو الجبن”، فإن غياب أحد هذين الركنين يعطي العدو ميزة تضاف إلى تفوقه المادي، ويفقد الصف المسلم فاعليته في حرب المستضعفين.

أمام هذا الواقع وسياسة العدو الإسرائيلي الرامية لإبقاء سوريا رهينة ضغط مشاريع التقسيم، فمن الأهمية بمكان البقاء على جاهزية وحيطة أمنية عالية المستوى، والسعي لامتلاك زمام المبادرة في منطقة العمليات، وتدريب وحدات صغيرة على سرعة الاستجابة للتعامل مع التهديدات، وذلك من خلال إدامة التماس المعلوماتي مع قوات العدو والميليشيات الرديفة لها والمصادر البشرية من العملاء، وإبقاء كل ذلك تحت الرصد والمتابعة. فإن الحرب مع الصهاينة هي حرب أمنية في المقام الأول.

وفي العمق السوري، فالمطلوب اتخاذ إجراءات وقائية تحسباً لأي استهداف موسّع محتمل، كتجنب نمط مساكن الضباط أو تجمع عدد من القادة للسكن في مناطق محددة، ومنع عناصر المواكبة والترفيق من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بالصورة المُزرية التي نراها حالياً، خاصة مع الحالات التي تحدد أماكن الإقامة ووجهات التنقل والسفر والسيارات المستخدمة وشبكة الأصدقاء وأماكن الراحة.

أما على المستوى الاستراتيجي، فالغاية بلورة عقيدة الحوكمة والقيادة والسيطرة وفق لامركزية مرنة، وتوزيع المسؤوليات والقيادات، والحد من استخدام وسائل الاتصال الشخصية أو برامج المراسلات الذكية، وبناء منظومة عمليات قادرة على استئناف العمل السريع بعد أي استهداف. ويتطلب هذا اعتماد لوائح قيادية مسبقة ومنصات تحكم وسيطرة بديلة ومحمية، وصولاً إلى الحد من ظهور دائرة صنع القرار في المشهد العام.

بالإضافة إلى ذلك، تُدعم هذه الإجراءات بتطوير الأمن السيبراني والاستخبارات المضادة، وإجراء مناورات أمنية دورية تختبر سيناريو محتمل لاغتيال القادة، ما يجعل من أي ضربة إسرائيلية استباقية ذات أثر تكتيكي مؤقت دون خلخلة مستوى القيادة الاستراتيجي.

إن المعركة الحتمية المؤجلة تفرض خوض معركة الإعداد واليقظة، فالعدو الإسرائيلي لا يفتر عن خوض حروبه الخاصة في فترات الهدن والتفاوض، ولا يقف عند حدود ولا تمنعه التزامات، بل التزامه الوحيد تفوقه الاستراتيجي وامنه الاستباقي لا غير. وما يحرص العدو على حمايته والوقاية منه رغم تفوقه المادي الكبير فخصومه أولى بالعناية به وحمايته، كما أن فارق القوة وصعوبة الانخراط في سباق المادة يجعل من العنصر البشري اليقظ والمبدع رأس مال المستضعفين، لكونه قادراً على إحداث المفاجآت وتعويض النقص وسد الفجوات وصناعة التاريخ.