الوجه السياسي الخفي للإبراهيمية

الوقت اللازم للقراءة:
15 minsهل لسوريا والسعودية مكان على خارطة إتفاق أبراهام؟
في حوار الرئيس السوري أحمد الشرع مع ديفيد بتريوس -الجنرال الأمريكي ورئيس الـ CIA السابق- طُرح السؤال حول الإبراهيمية، وولوج سوريا إلى بوابة التطبيع مع إسرائيل من بوابة الدول التي دخلت من بوابة الإبراهيمية، ليرد الشرع بأن مسار الإبراهيمية لا يُناسب الحالة في سوريا، وإن كانت سوريا لا ترغب في الحرب مع إسرائيل في هذه اللحظة، وهو ما يطرح سؤالا حول فكرة الإبراهيمية ذاتها، وهل هي فكرة لاهوتية تجمع الأديان الثلاثة المنسوبة لإبراهيم عليه السلام -الإسلام والمسيحية واليهودية- أم أن الأمر أكبر من ذلك حتى يُطرح في دوائر السياسات الدولية ومنتديات الأمن العالمية؟!
في السنوات الأخيرة، برز عدد من المؤسسات الدينية – والحداثية أيضا – الداعية إلى التمسك بالعيش المشترك مع إسرائيل، وكان آخر هذه الصيحات صيحة الحديث عن «الإبراهيمية» أو المشترك الإبراهيمي في عالمنا الإسلامي -العربي على وجه الخصوص- وجرى التسويق لها باعتبارها امتدادًا طبيعيًا للنقاش الديني المتصل بالوحي والشرائع، أي أن الإبراهيمية ما هي إلا محاولة بأن يجمع أتباع الديانات الثلاثة في بوتقة روحانية واحدة تقرّبهم من بعضهم البعض. غير أن المتأمّل الحصيف لا يحتاج الكثير من الجهد حتى يلحظ الوجه الآخر لهذا المشترك المزعوم، إذ تظهر فيه بوضوح علامات التطبيع الرامي لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، وقبول الوجود الصهيوني في المنطقة بوصفه حقًا طبيعيـًا لإخوتنا الإبراهيميين، على حد زعمهم.
لنجد أن ما بدأ من عدة عقود في الجامعات الغربية كنقاش أكاديمي حول «خلاصٍ كونيّ» يتجاوز احتكار النجاة، تحوّل تدريجيًا إلى بنية مؤسسية تُعيد تعريف «العدو» و«الصديق»، وتُنحت هويةً دينيةً بلا إلزام عقدي؛ تُعلّب «التعايش» كبديلٍ سياسيٍّ عن مفهوم العدل والتحرير، وتُعيد رسم البوصلة بعيدًا عن مناهضة الاحتلال.
وفي هذا المقال سنحاول -باختصار- أن ننسج خيوط الرواية كاملة: فنتعرف على الفكرة الإبراهيمية وأصولها، وسياق نشأتها السياسية وأبرز الرعاة والفاعلين في الترويج لها بيننا، لكن ضمن سياق أوسع، وهو سياق المؤسسات الدينية والثقافية التي ترعاها بعض الأنظمة في سياق سياسي قائم، ومن ثم العلاقة الوثيقة بينها وبين تفريغ معاني الولاء والبراء وتبرير الحلف مع إسرائيل.
خلاصٌ أم تصفية؟
في السياق الغربي اللاهوتي برزت فكرة (الإبراهيمية) التي تتجاوز الظمأ الفطري للدين، وتحاول أن تستعيض عنه بلاهوت آخر يتحدث عن الخلاص الكوني، فيخبرنا تشارلز تايلور، في دراسته لمسار الحداثة نحو «العالم العلماني»، كيف أزاحت الإنسانويةُ الحديثة الدينَ عن موقعه المركزي في إنتاج المعنى، من دون أن تُسكت نداء الروح المتجذّر في النفس؛ ما ولّد الحاجة إلى «دينٍ أخلاقي عالمي» يوازن بين النزوع الذاتي وإشباع العطش الروحي[1].
وفي السياق نفسه اقترح جون هيك أطروحته عن «التعددية الخلاصية»، معتبرًا الأديان الكبرى استجابات ثقافية متعدّدة لحقيقةٍ متعالية واحدة؛ وأنّ صور الإله المختلفة ليست سوى تمثّلاتٍ رمزية لحقيقةٍ لا تنحصر في عقيدة بعينها[2]، ليتحول اختلاف العقائد إلى تنوّعٍ رمزي يتجاوزه إطارٌ أخلاقيٌّ جامع.
غير أنّ هذه التصوّرات لم تبقَ حبيسة الكتب والمباحثات الأكاديمية، بل سرعان ما تسرّبت إلى المجال السياسي، ووظفها الساسة فيما عُرف بمشروع «المخطط الإبراهيمي». ولم يبق من فكرة الإبراهيمية اللاهوتية غير الاسم، أما المشروع فأصبح مشروع أمني عسكري سياسي يُفرض على المنطقة. والحقيقة أنّ هذه الفكرة لم تكن جديدة على الساسة أيضا، إذ سبق أن طُرحت في تقرير أمريكي عام 1978 بعنوان «اتحاد إبراهيم: إطار جديد للسلام في الشرق الأوسط»، رأت فيه الإدارة الأمريكية أن استدعاء عباءة إبراهيم الدينية يمكن أن يوفّر الوصفة السحرية لتجاوز النزاع[3].
وبعد عقود من التأسيس النظري، بدأت أنشطة الحركة الإبراهيمية تأخذ منحًى واقعيًا من التفاعل والتأثير، حتى باتت تعقد مؤتمرًا سنويًا باسم «مؤتمر إبراهيم»، وتنتج المؤلفات والتقارير المرافقة، مثل كتاب يوئيل عوز «الاتحاد الإبراهيمي: حلّ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني» الذي دعا إلى نموذج «الفيدرالية الإبراهيمية»؛ عبر اتحاد هجين بين النموذج الأمريكي والأوروبي، يضم إسرائيل تحت مظلة دولة موحّدة.
وقد كان ترامب في دورته الرئاسية الأولى وصهره جاريد كوشنر أهم المتحمسين للإبراهيمية في معناها السياسي والمبشرين بها، وبحسب الباحث في مركز كارنيجي ألكسندر كاتب فإن “الهدف الأبرز لهذه الاتفاقات الإبراهيمية نزع فتيل التوتّر في الشرق الأوسط من خلال تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي توصَف بالمعتدلة، على أن تستفيد هذه البلدان من تعزيز قدرتها على الحصول على التقنيات المتقدّمة والفرص التجارية الجديدة، استنادًا إلى رؤية مشتركة لإيران باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا.
وأتت الخطة تتويجًا لمؤتمر “السلام من أجل الازدهار” في الشرق الأوسط الذي انعقد في البحرين في حزيران/يونيو 2019 وترأسه صهر ترامب ومستشاره آنذاك جاريد كوشنر. الواقع أن هذه الاتفاقات مستوحاةٌ من قناعة مفادها أن أدوات الجغرافيا الاقتصادية قادرة على التخفيف من حدّة التوتّرات الجيوسياسية من خلال تقديم حوافز مالية واقتصادية لتفادي الخوض في صراعاتٍ تبدو عصيّةً على الحلّ”
محرابٌ على المقاس
ومن هنا، ارتبط المشروع الإبراهيمي بتغيير الثقافة العربية والإسلامية من الداخل: فبما أن شعوب المنطقة متديّنة بالفطرة، فإن أي تحوّل سياسي أو اجتماعي لا يمكن أن يتم إلا عبر إعادة تعريف العقيدة الدينية ذاتها.
لذلك رُوّجت «الديانة الإبراهيمية» كقوة ناعمة قادرة على إفراغ الإسلام من معاني الولاء والبراء، وتحويل الاحتلال الصهيوني من كونه اغتصابًا استعماريًا إلى نزاع عائلي عابر بين أبناء ديانة واحدة، وبذلك تُزال العقبة العقدية التي شكّلت أساس الرفض العربي لوجود إسرائيل لعقود طويلة.
أبوظبي وبيت إسرائيل
في فبراير/شباط 2019 وقّع البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي، لتتجسّد هذه الوثيقة على أرض الواقع بعد أربعة سنوات، في بُنيةٍ معمارية تسمّت بـ«بيت العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي، حيث اجتمع مسجد وكنيسة وكنيس في مجمّعٍ واحد؛ وافتُتح رسميًا للجمهور في 1 مارس/آذار 2023، ليسُوّق بوصفه «معلمًا حضاريًا» و«ساحة تماسّ روحي»[4].
وبالتوازي، استُدعي اسم نبي الله «إبراهيم» في «اتفاقيات أبراهام» (15 سبتمبر/أيلول 2020) التي رعتها الولايات المتحدة بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، لتصبح الإبراهيمية غطاءً رمزيًا-دينيًا لمسارٍ سياسي وأمني واقتصادي[5].
ضمن هذا المناخ، برزت الإمارات كلاعب نشط فيما عُرف باسم «الدبلوماسية الروحية»، مُقدّمةً نفسها كعاصمةٍ عالمية للتسامح[6]، لنجد أن الإمارات لم تكن مجرّد راعٍ؛ بل مسرحَ الميلاد السياسي العلني للمشروع، وفي سبيل ذلك دعمت ورعت -بمفردها أو بالشراكة مع المطبعين الآخرين- مؤسسات وأبواقًا تصطبغ بصبغة الإسلام وتروج للإبراهيمية من خلال خطاب جديد يريد ترويض الدين تحت عناوين «السلام» و«التسامح»، وإعادة تأويل التراث وتأنيقه على مقاس الواقع السياسي، وإعادة تعريف العدو والصديق.
مؤسسة طابة ومعابد الدين المُدان!
ونجد تجليات هذا الخطاب على أرض الواقع على يد مراكز ومنتديات متعددة لها صبغة دينية مثل منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والذي أقيم في أبوظبي عام 2014، برئاسة الشيخ عبد الله بن بيّه، وبمشاركة نائبه حمزة يوسف، وشخصيات دولية من مختلف الأديان، بينهم قيادات دينية يهودية ذات ارتباطات واضحة بالكيان الصهيوني، وقد قدّم خطابًا دينيًا يدمج مفاهيم التصوف والفقه في إطار سياسي يخدم الاستقرار الداخلي والسياسات الخارجية المطبّعة، مع محاولات مبطّنة لإماتة القضية الفلسطينية من خلال تحييد مفردات مثل الجهاد والمقاومة، والتركيز على مصطلحات من قبيل “إطفاء الفتن” و”فقه السلم” و”التعايش”[7][8][9].
أيضًا يمكن اعتبار مؤسسة طابة أحد أبرز الأوجه المؤسسية لتمرير خطاب السلام بدلًا من المقاومة، حيث يضم مجلسها الاستشاري شخصيات بارزة مدعومة إماراتيًا، مثل عبد الله بن بيه، علي جمعة، والراحل محمد سعيد البوطي، لكن قطب الرحى فيها هو عليّ الجفري الذي عُرف بخطاب يتجنّب الصدام مع الأنظمة ويتبنّى لغة مروّضة، وقد أزكى هذه الصراعات الخلاف السلفي الصوفي الذيّ أججه هذا التيار الصوفي الجديد، وقد تجلّى هذا التوجه بوضوح في دورها المحوري بتنظيم “مؤتمر الشيشان” عام 2016، الذي استبعد التيارات السلفية والحركية من تعريف أهل السنة والجماعة، في انسجام لافت مع توصيات مراكز بحثية غربية كـ”راند” التي أوصت بدعم الصوفية كبديل سياسي آمن[10][11][12].
على الجانب الآخر من الرعاية الإماراتية للمبادرات الدينية تأتي المبادرات الثقافية. فكانت مؤسسة مؤمنون بلا حدود سبيل لإعادة تأويل المفاهيم الإسلامية الكبرى تأويلًا حداثيًا يفرغها من بعدها العقدي والسياسي، ويحوّلها إلى مادة ثقافية محايدة، وذلك من خلال دعايات من قبيل “تجديد الفكر الديني” و”إصلاح مناهج قراءة التراث”، لخدمة أجندة بعض الأنظمة في مواجهة الإسلام السياسي، لاسيما النظام الإماراتي، حيث يعمل كأداة ناعمة لإعادة تشكيل وعي الشباب العربي والإسلامي وفق القيم الحداثية المتماهية مع مشروع التطبيع، وعبر تمويل واسع النطاق ودعم إماراتي غير محدود[13].
وتحت لافتات “مكافحة التطرّف” و“حماية المجتمعات”، راكمت مراكز وهيئات بحثية وأمنية غربية (ومؤسسات شريكة لها) سرديةً تُقارب الصراع في فلسطين من زاوية أمنية خالصة: فالأولوية ليست تفكيك بنية الاحتلال، بل رصد “التطرف” و”الإرهاب” و”خطاب الكراهية” المرتبطين بالصراع، وفي صدارة هذا الاتجاه يأتي مركز المسبار للدراسات والبحوث، الذي تأسس في دبي عام 2007 على يد الإعلامي السعودي المقرب من النظام الإماراتي تركي بن عبد الله الدخيل، ويقدّم نفسه كمؤسسة بحثية تُعنى بدراسة الحركات الإسلامية ورصد أفكارها وممارساتها، لكنّه في الحقيقة يؤدي دوراً فكرياً في الحرب ضد الحركات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، متبنّياً رواية تصف معظم أشكال الحراك الإسلامي السياسي بأنها تهديد أمني، كل ذلك بدعم سنوي من ولي عهد أبو ظبي بقيمة 12 مليون درهم إماراتي، وقد أنتج المركز عشرات الكتب والدراسات التي تنتقد الحركات الإسلامية، وعلى رأسها نقد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي ربطتها بالتطرف والعنف، بالرغم أن الحركة لا تمتلك أي نشاط مسلح إلا في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وهو ما يعتبره المركز -فيما يبدو- تطرفًا وإهابًا![14][15][16].
وفي السياق نفسه يأتي مركز تريندز للبحوث والاستشارات، الذي انطلق من أبوظبي ليقدّم نفسه كمنصة بحثية مستقلة تُعنى برصد التحولات السياسية والفكرية، لكنه في الجوهر يمارس دورًا ممنهجًا في إعادة تعريف العدو داخل الخطاب العربي والإسلامي، فبدلًا من أن تكون بوصلة الخطر متجهة نحو الاحتلال وسياسات الهيمنة، يعيد المركز توجيهها نحو الحركات الإسلامية، باعتبارها التهديد الأمني الأكبر، فضلًا عن لمز المركز للمقاومة الإسلامية في فلسطين بأنّها تسعى لاستغلال الأحداث السياسية الكبرى -كالانتفاضة الأولى- لتفرض وجودها، وتستغل شعبية الإخوان في تجنيد الشباب بها لتداري عن نفسها تخاذلها عن المقاومة بعد 1967، وهو الأمر الذي يبرز التحامل الكبير ضد المقاومة والسعي لتشويهها بأنصاف الحقائق، كما يلمّع المركز صورة الأنظمة المطبّعة المعادية للإسلام السياسي -كالنظام الإماراتي- كونها نماذج عالمية في مكافحة التطرف ونشر التسامح، والذي يعني بالطبع التقرب من إسرائيل ومحاربة أي فكر مقاوم[17][18][19].
عمائم على مذبح الدم
أما في السياق المشيخي العربي، فإذا تتبعنا تصريحات ومواقف أبرز الدعاة لما يسمونه السلام والإخاء الإنساني الإسلامي فإننا نجد أن التطبيع قريب الصلة من مزاجهم وفتاويهم الدينية، وقد انخرط بعضهم أيضا في مشروع الإبراهيمية القائم على صبغة إسلامية مداهنة.
وفي مقدمة هؤلاء يأتي العالم الموريتاني الأصل عبد الله بن بيه والذي يُقدّم بوصفه شيخ السِّلم، بينما هو في الواقع يمثّل نموذج الفقيه الذي حُوِّل إلى أداة سياسية ناعمة سواء درى أو لم يدر. ففي كل بياناته وخطاباته يتحدث عن “حفظ النفس” باعتباره المقصد الأعلى، بينما يلوذ بالصمت المطبق عند ذكر المجازر الإسرائيلية في غزة، والحديث عن انتهاكات الاحتلال بوصفها “توترًا” دون أي ذكر لكلمة “احتلال” أو “مجزرة”، مما جعل خطابه أقرب إلى تبييضٍ ناعم للعدوان. وإلى جانب ذلك، يشارك بن بيه بانتظام في مؤتمرات يهودية–مسيحية، إلى جوار شخصيات صهيونية بارزة كالحاخام ديفيد شلومو روزن، بما يضفي شرعية دينية على المشهد التطبيعي[21].
وفي السياق نفسه يبرز نائبه في منتدى السلم الإماراتي الداعية الأمريكي حمزة يوسف الذي يصدّر في الغرب كوجهٍ روحاني للإسلام التقليدي، لكن تصريحاته ومواقفه كشفت انحيازًا صريحًا لمشروع الإبراهيمية، فقد أعلن تأييده لاتفاقات التطبيع، بل صرّح في مؤتمر بكندا عن المجازر في غزة بأن “أحيانًا يجب تحمّل العذاب بصمت”، وهي عبارة أثارت غضبًا واسعًا، ومع أنه حاول التراجع لاحقًا، إلا أن خطابه يظل منحازًا لـ“إسلام صامت” منزوع المقاومة، يبرّر الاستسلام بالزهد الروحي[22][23].
أما علي الجفري فتمثل حالته النموذج الأكمل لمشروع “إسلام الطاعة” في ثوبه الصوفي المؤسسي، وذلك من خلال تأسيسه لمؤسسة “طابة” في أبوظبي عام 2005، التي باتت إحدى الأدوات المركزية لـ”إعادة تشكيل الإسلام العام”، وذلك من خلال تقديم نموذج للدين منزوع السياسة، يُركّز على الروحانية والطاعة، ويتجنب المواجهة أو نقد السلطة. علاوة على ذلك، تشير بعض الدراسات إلى أن الجفري، إلى جانب بن بيه وحمزة يوسف، يتم تمويلهم ودعمهم إماراتيًا لتصدير صورة الإسلام الإبراهيمي المعتدل عالميًا، وذلك بهدف محاصرة نفوذ الإسلام السياسي وإخراجه من الفضاء العام[24][25].
من مكة إلى أوشفيتز
وعلى النهج ذاته، نجد محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الذي لم يُعرف له موقف حاسم ضد الاحتلال الإسرائيلي، بينما نراه يصدم العالم الإسلامي بخطوات تطبيعية فاضحة من خلال زيارته عام 2020 لمعسكر أوشفيتز -الذي خصص لاحتجاز اليهود إبان الحرب العالمية الثانية- برفقة وفد من ممثلي الطائفة اليهودية، دون أن يذكر في كلمته شيئًا عن النكبة أو فلسطين، وهو ما وُصف حينها بأنه “تبييض ناعم” للجرائم الصهيونية تحت لطمية الهولوكوست، وإعلاء لما يُسمّى بالسلام الإبراهيمي على كل قيم العدل والولاء لقضايا المسلمين[26].
وإلى جانب هؤلاء، برزت شخصيات أخرى ساهمت في إعادة تعريف العدو، مثل أسامة الأزهري الذي اعتبر أن فلسطين ليست إلا ورقة بأيدي الإسلاميين لـ“التأليب على الدولة”، وذهب إلى حدّ القول إن خطاب بعض الإسلاميين يتقاطع مع الدعاية الإسرائيلية كونه يحرض على النظام المصري على حد زعمه[27].
هذا النمط من الخطاب، الذي يُشيطن المقاومة باسم “حماية الدولة”، ويتهم مناهضي التطبيع بالتآمر، نجده أيضًا عند وسيم يوسف، الذي حمّل المقاومة آثام الإبادة الصهيونية، فقط لأنها تدافع عن نفسها وشعبها بما أتيح لها من سلاح، بل برّأ إسرائيل من آثام الانقسامات والحروب في المنطقة كلها، مؤكدًا أنها ليست العدو، وأن “العدو الحقيقي هو من يحرّض على الكراهية”، فضلًا عن هجومه الدائم على المقاومة وتخذيله لمساعيها[28][29][30].
مثقفو التبرير الجدد
أما عدنان إبراهيم، فقد سلك مسارًا أكثر التفافًا، فهو قلّما يهاجم الاحتلال مباشرة، لكنه في المقابل، يشنّ هجومًا لاذعًا على “رموز الإسلام السياسي”، ويعتبر أن “تحريضهم” على الجهاد والمقاومة هو ما جرّ الويلات على الأمة، متجاهلًا السياق الاحتلالي، وواصفًا بعض العمليات الفدائية بأنها “ردود فعل انفعالية”. هذا النوع من المواقف، وإن بدا محايدًا، يكرّس سردية تلقي باللائمة على الضحية، لا الجلاد[31].
وفي مصر نجد إبراهيم عيسى الذي يتزعم جماعة المشيطنين لكل ما هو إسلامي وكل ما هو مقاوم ومجاهد للعدو الصهيوني، حتى إنّه كرّس العديد من حلقات برنامجه منذ السابع من أكتوبر للهجوم على المقاومة وتأثيمها بذنب الإبادة، متهمًا إياها بأنها هي من دمرت غزة، ثم اختفت في الأنفاق -بالرغم أن زعيمها استشهد مقاتلًا في الميدان- متجاهلًا تمامًا المجرم الصهيوني الذي يشرب من دماء الأبرياء[32][33].
وفي سياق قريب، نجد زميله وشريكه في تأسيس مركز تكوين يوسف زيدان الذي اعتبر أن طوفان الأقصى لا يعبّر عن كراهية فحسب، بل هو رد فعل مريض بالتعنت؛ لكن ليخرج من المأزق -أو هكذا ظن- فقد اعتبر أن كلا الطرفين -المقاومة والإسرائيليين- ارتكب كراهية بحق المدنيين، مما يُعد خلطًا فاضحًا بين من يدافع ومن يعتدي[34].
تذويب الهوية
أخيرًا، وإذا تأملنا مسار «الديانة الإبراهيمية» من جذورها الفلسفية في اللاهوت الغربي، مرورًا بتحوّلها إلى مشروع سياسي في أبوظبي، ثم تجسّدها في مؤسسات وبيوت رمزية ومسارات طقوسية، وصولًا إلى تبنيها من شخصيات دينية وإعلامية نافذة، سنجد أن الهدف المركزي واحد: تفريغ الإسلام من معاني الولاء والبراء، وإعادة توجيه بوصلة الأمة بعيدًا عن مقاومة الاحتلال.
فالولاء لله ورسوله والمؤمنين يُستبدل بولاء إنساني فضفاض، والبراءة من الشرك والظلم تتحوّل إلى خطاب عن «خطاب الكراهية»، ومع كل خطوة في هذا المسار، تتآكل خصوصية الهوية الإسلامية لصالح هوية «إبراهيمية» جامعة تُساوي بين الحق والباطل، وتذيب الحدود الفاصلة بين المظلوم والظالم، فحين تُشيطَن المقاومة وتُقدَّم إسرائيل كشريك في «السلام»، يصبح من الطبيعي أن تُسوَّق اتفاقيات أبراهام بوصفها تتويجًا لـ«المشترك الإبراهيمي»، لا كخيانة سياسية. وهكذا يتحوّل الدين من محرّك للعدل والتحرير، إلى غطاء رمزي لتحالفٍ أمني–اقتصادي مع الاحتلال، وتتحول النصوص الشرعية من بوصلة ولاء وبراء، إلى شعارات للتسامح والحياد.
المصادر
- Charles Taylor, A Secular Age, Harvard University Press, 2007.
- John Hick, An Interpretation of Religion: Human Responses to the Transcendent, Yale University Press, 1989. بالإضافة إلى مدخل Stanford Encyclopedia of Philosophy حول John Hick:
Stanford – John Hick - The Abraham Federation: A New Framework for Peace in the Middle East | Center for Economic & Social Justice
- Abrahamic Family House (الموقع الرسمي) — الافتتاح الرسمي (16 فبراير 2023)، والافتتاح للجمهور (1 مارس 2023)، والمعمار من David Adjaye.
الموقع الرسمي – Abrahamic Family House - U.S. Department of State – Abraham Accords Declaration (اتفاقات أبراهام)، واشنطن، 15 سبتمبر 2020.
State.gov – Abraham Accords - حكومة الإمارات – صفحة «عام التسامح 2019».
UAE Year of Tolerance 2019 (حكومة الإمارات) - Forum for Promoting Peace in Muslim Societies
- Using Religion for Geopolitical Ends in the Gulf Disputes between Abu Dhabi and Qatar
- The Modernist Roots of Islamic Autocracy: Shaykh Abdullah Bin Bayyah and the UAE-Israel Peace Deal
- الدور المشبوه لمؤسسة طابة في مرحلة الربيع العربي | أسامة شحادة
- الجفري.. الداعية الصوفي إلى “الإسلام الأمريكي”
- “دراويش بن زايد”.. هكذا تسعى الإمارات لتأسيس مرجعية دينية تشرعن الاستبداد | سكون | الجزيرة نت
- https://www.aljazeera.net/sukoon/2017/7/10/مؤمنون-بلا-حدود-كيف-تحاول-الإمارات-خلق
- Al-Mesbar Studies & Research Center
- تركي الدخيل.. ذراع ابن سلمان الذي خدم أبوظبي فكرَّمته الرياض – صحيفة الاستقلال
- الدخيل والمسبار.. كيف يهندس سعودي تشويه الحركات الإسلامية بأموال بن زايد؟ | سياسة | الجزيرة نت
- دراسة بحثية لتريندز جماعة الإخوان تهدد الأمن القومي للدول من خلال زعزعة الاستقرار ونشر الفتن
- تداعيات الحرب في غزّة على جماعة الإخوان: رتق الشرعيّة أم المعركة الأخيرة؟
- في مجلس أم غافة .. «تريندز»: الإمارات نموذج عالمي في مكافحة التطرف ونشر التسامح
- عبد الله بن بيه بين التطبيع والجرائم الإسرائيلية | سياسة | الجزيرة نت
- انتقادات لاذعة للداعية حمزة يوسف بعد تأييده اتفاق التطبيع.. تقرير: تستخدمه أبوظبي للدعاية لقراراتها
- غزة يجب ان تتألم في صمت ! – حمزة يوسف
- Islam and Statecraft: Religious Soft Power in the Contemporary Middle East
- The United Arab Emirates’ Religious Soft Power through Ulema and Organizations
- محمد العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ووزير العدل السعودي السابق يؤم صلاة في معسكر “الهولوكوست” – BBC News عربي
- وزير الأوقاف المصري: الإخوان أحفاد الخوارج.. وصنعتهم التكفير والتفجير والكذب
- Can Israel blast Gaza and still make friends in the Gulf? | Reuters
- حسابات إسرائيلية تحتفي بدفاع وسيم يوسف عن إسرائيل.. شاهد ماذا قال؟
- لماذا نحذر من حماس, وماذا يجري في غزة الآن. استمع بقلبك وعقلك قبل أن تحكم
- عدنان إبراهيم يشعل ضجة بما قاله عـــن حــمــ-ـاس و”طــوفــ-ـان الأقــصــ-ـى”
- إبراهيم عيسى: حماس سحقت غزة وجلبت الدمار للمقاومة الفلسطينية
- ابراهيم عيسى يهاجم حماس: أكبر خونة للقضية الفلسطينية هما حماس .. هما اللي بيصفوا القضية الفلسطينية
“طوفان الأقصى يجسد الكراهية” .. يوسف زيدان يثير الغضب من مدينة طنجة

