إلى جيل لم يشهد الثورات … هذا موقعك في المستقبل!

آخر تحديث: 14 نوفمبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

18 mins

الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام

“اللايقين – التناقض – الأزمنة السائلة – أزمنة الانتقال” عناوين دأب الباحثون على نعت عصرنا بها سواء في الدراسات الاستراتيجية أو علم المستقبليات أو حتى في أبواب الفلسفة والفكر. وفي 2009م كتب المفكر البريطاني من أصل باكستاني ضياء الدين سردار مقالا سماه “مرحبا بك في عالم الأزمنة ما بعد العادية – Welcome to Postnormal Times” ووصف زماننا بأنه عالم اللايقين والتأزم والسلوك الفوضوي، وأن عالمنا يشهد عصر قفول السرديات الكبرى وتكوين سرديات جديدة، فلا يدري الإنسان العادي أين موقعه عند مفترق الطرق؟! 

وإذا كان سردار يصف في مقاله سمات العالم بعموم كما رأه هو منذ النصف الثاني من القرن العشرين، فإن هذه الأوصاف أصدق ما تكون على المنطقة العربية والإسلامية وما تعرضت له من تغيرات متتالية من منتصف القرن العشرين -لحظة استقلال تأسيس الجمهوريات العربية- ثم ما شهدته بعد ذلك من تغيرات جذرية في مطلع القرن الواحد والعشرين، بداية من حادثة ضرب برجي التجارة بنيويورك 2001م ثم الثورات العربية 2010م ثم الحوادث المختلفة التي تلت ذلك في منطقتنا. حتى إننا إذا أردنا عنواناً عريضا للأزمنة والأحداث التي تمر بها منطقتنا فلاشك أن أحد العناوين المختارة سيكون “مرحبا بك في عالم الأزمة والأحداث الاستثنائية”.

في هذا المقال لن أُحدثك حديثا فلسفيّا وأخبرك كيف نَظّر الفلاسفة المعاصرون لهذه الأزمنة وتحولاتها، ولست مشغولا أيضا بسرد التاريخ التفصيلي لحوادث زماننا وماجرياتنا السياسية والاجتماعية، فالوقت الذي نحيا فيه هو وقت التغيير قبل أن يكون وقت الفلسفة، ولذا فإني سأحدثك هنا عن ثلاث كلمات لا غير:

  • (1) ما الذي حدث منذ ثورات الربيع العربي لليوم؟
  • (2) كيف ينهار الآن كل هذا الذي حدث؟!
  • (3) ما دور الشباب -الذي يؤمن بالإسلام دينا و بأمته وجهةً – في هذا الذي يحدث من حوله؟

ماذا حدث؟! … موجز عابر للتفاصيل

في نهاية عام 2010م عمت الثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، وغيّرت رأس النظام في هذه البلاد، وإن استطاعت الثورات المضادة والدولة العميقة في هذه البلاد على السيطرة على الدولة لاحقا وبناء نُخب جديدة من رأسمال النظام القديمة لتكون أشد ضراوة من النظام القديم، كما هي عادة الثورات المضادة.

كانت سوريا استثناء من هذا التغيّر، إذ استمرت الثورة فيها قرابة 15 سنة حتى ظُن أن القضية السورية قد صُفت، وأُعيد بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، بل حاول الأتراك -آخر سِنيّ الثورة- الوصول إلى تسوية مع نظام بشار الأسد في بعد أن استتبت له عامة البلاد بالدعم الإيراني والروسي، لكن قدرة الله كانت أسرع بتغير النظام السوري في 11 يوما فقط بعد 14 سنة متواصلة من النضال. هذا عن تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، أما البلاد العربية التي لم يتغير فيها رأس النظام، فلم تسلم هي الأخرى من لهيب هذه الثورات، فقد مست نار الاحتجاجات المغرب والأردن وبعض دول الخليج، وخاصة البحرين.

وفي 2013م اُنقلب على محمد مرسي -رئيس الجمهورية المصري من خلفية إخوانية- ومع هذا الانقلاب تكون حلف عربي هدفه الأساسي إنهاء ما رأه حالة الفوضى التي عمت الإقليم في محاولة لإيجاد قوى داخلية في بلاد الثورات يمكن التفاهم معها. دعم هذا الحلف الأنظمةَ الجديدة -التي نشأت من رحم الثورات المضادة- سياسيا واقتصاديّا ودبلوماسيّا في مصر وليبيا واليمن. أما سوريا، فلم يكن الدعم فيها لحكومة بعينها وإنما للفصائل المختلفة التي يمكنها أن تحسم المعركة أو تضغط لوضع حل سياسي يُفاوض عليه الأسد لاحقا.

كانت الإمارات رأس الحربة في هذا الحلف الجديد، والذي ظهر للعلن عام 2017م مع حصار قطر والذي ضم الإمارات والسعودية والبحرين ومصر. وعلى النقيض من هذا الحِلف تشكل بوادر حِلفٍ آخر في المنطقة ضمّ قطر وتركيا، وقد جمع كلا البلدين موقفهما الرافض لانقلاب مصر في حينه والقبول -إن لم يكن دعم- حركات الإسلام السياسي العربية، لكن قوة هذا الحلف تعاظمت مع الحصار الذي فُرض على قطر عام 2017م.

وعلى إثر هذا الحصار نشبت حربًا إعلامية بين هذه البلاد ووظف فيها مال سياسي غير متناه في محاولة ربح القوى الناعمة المصاحبة لهذه الحرب. وصاحب ذلك مقاطعة اقتصادية وتصعيد دبلوماسي، حتى التلويح بخوض حرب عسكرية ضد قطر. بيد أن المصالحة الخليجية الخليجية عام 2021م قد أنهت هذه القطيعة -ولو ظاهريًّا-، وأصبح الحذر السياسي والإعلامي هو الوضع السائد بين قطر ودول الحصار، حتى وإن اختلفت المصالح بين هذه الدول وبعضها. وأبقت قطر شراكتها الاقتصادية والعسكرية مع الأتراك حتى بعد الأزمة، وعززت الاتفاقات العسكرية تحسبا لأي مستجدات تطرأ.

لم يدم كِلا الحلفين طويلا، فسرعان ما أُعيد تفكيكهما وإعادة تشكيلهما مرة أخرى بعد 2021م، إذا كانت المقولة الأساسية التي تجمع الحلف الأول هي “القضاء على نفوذ الإسلام السياسي” بوصفه الأكثر تنظيما في البلاد العربية بعد الثورات، والغاية الكبرى هو استقرار المنطقة مع أنظمة يمكن التفاهم معها. وهذه المقولة -أعني إقصاء تيار الإسلام السياسي- قد انعكست في المطالب التي طُولبت بها قطر وقت الحصار.

لكن يبدو أن هذه المقولة لم تؤخذ على المحمل الأيدلوجي -بمعناه الحقيقي- إلا من دولة الإمارات، كما أنها لم تُجدي نفعًا في التحديات الفردية التي لاقتها كل دولة من هذه الدول على حدة في الملفات الإقليمية المختلفة، والتي قد تتعارض مصالح كل دولة مع شقيقتها في ذلك الوقت.

مثل الموقف من إيران وخصوصا مع تصاعد العداء السعودي الإيراني، وخوض السعودية لحرب اليمن واختلاف مصالح السعودية في اليمن مع مصالح الإمارات، وإعادة الموضعة في الملف الليبي بين مصر والإمارات، ثم التحديات الاقتصادية التي واجهها النظام المصري من تضخم وفساد واتساع هوة الفقر وعسكرة للاقتصاد المصري، فضلا عن الملفات الإقليمية التي خاضها النظام المصري وبقيت دون حسم مثل الصراع حول غاز شرق المتوسط، والإخفاق في إدارة ملف سد النهضة، واشتعال الحرب على الحدود الجنوبية في السودان، والتطورات العسكرية في شبه جزيرة سيناء، والاضطراب الداخلي قضية تيران وصنافير، والعداء الذي استمر بين النظام المصري والنظام التركي، فرغم تصالح عامة القوى الخليجية مع النظام التركي وطي مرحلة الشقاق معه إلا أن هذا الخلاف بدأ في التحسن بين البلدين فقط في العام 2022م.

أما الإمارات فظهرت بوصفها الحليف العربي الأكثر إخلاصًا لإسرائيل، كما عززت من حضورها الاقتصادي في مصر وبقية بلاد المنطقة، وعززت حضورها العسكري في الموانئ التي أنشأتها في أفريقيا وعلى ضفاف البحر الأحمر، فضلا عن دعمها العسكري لقوات حفتر في ليبيا وقوات الدعم السريع في السودان.

على الجانب الآخر، شعرت تركيا وقطر بعبء فواعل الإسلام السياسي عليهم دون إنجازات تُذكر من هذه المعارضة الإسلامية طوال سني الدعم والإقامة، وهو ما أدى إلى تخفيض الدعم في السنوات الأخيرة مع عدم القطيعة النهائية، خاصة بعد المصالحة الخليجية، ومع اتساع المصالح الاقتصادية التي نشأت بين الأتراك ودول الخليج، وعودة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، والضغط على المعارضة في تركيا لتخفيف انتقاد النظام المصري، مع ما يُشاع أيضا من شعور لدى أجهزة الدولة التركية بعبء الملف المصري المعارض عليهم مع الحاجة لتفاهمات مع مصر في ملفات إقليمية متنوعة وبخاصة في الملف الاقتصادي وملف الطاقة في غاز شرق المتوسط والحرب الإسرائيلية في غزة.

أما قطر فخفضت من توسعها في الأدوار الخارجية، و انتهجت سياسة إعلامية تخفض من استفزاز الدول العربية الأخرى، وبخاصة دول الخليج، وهو ما يظهر في السياسة التحريرية للمنصات التي كانت رأس حربة في فترة الحصار، وبخاصة قناة الجزيرة واذرعها المختلفة. وقد عُزز هذا الشعور عندها بآخرة القصف الإسرائيلي لوفد حماس في الدوحة. 

أما الساحة السورية قبل التحرير، فقد دخلت في حالة اقتتال عنيفة ومعقدة ولم تخف حدتها إلا في الشمال السوري (المحرر سابقا) في التحالف الذي ضم كثير من فصائل الشمال وكان أكبر فصيل فيه هيئة تحرير الشام منذ العام 2019م، وإن كان هذا الضم لم يمنع أيضا الاضطرابات والاحتجاجات في المُحرر -خاصة فترة ما عُرف بالحِراك- حتى تحرير دمشق في العام 2024م.

ولم يكن الاقتصاد منفصلا عن الساسية في المنطقة. فقد زادت معدلات الفقر في عامة الدول العربية -باستثناء دول الخليج- وارتفعت حالة الاحتقان اليومي في حياة المواطن العربي حتى اندلعت انتفاضات احتجاجية متفرقة في لبنان ومصر والسودان وليبيا ومؤخرًا المغرب على يد حركة ما يُعرف بجيل Z وكان الملف الاقتصادي هو الملف الأبرز في هذه الاحتجاجات.

انطلاق قطار التطبيع

أما فلسطين، فكان الحديث العام وقتها يتجه إلى هامشية القضية الفلسطينية بعدما ظلت القضية الأولى عربيا لعقود، بل كان هناك رغبة وقتها في تصفيتها بالكلية، خصوصا مع الخلاف الفلسطيني الفلسطيني.

أما قطار التطبيع فقد كان يشق غباره في المنطقة بسرعة مذهلة، وخاصة في الخليج مع عهد ترامب الأول فيما عُرف باتفاقات أبراهام (مشروع الإبراهيمية)، وقد صاحب ذلك محاولة تكوين حِلف عسكري (أمني) عربي-إسرائيلي برعاية أمريكية للتصدي للمشروع الإيراني، قبل أن تجري كرة الثلج ويتفكك هذا المشروع لاحقا إلى حد كبير.

واللافت للنظر أن النظام المصري تعامل بحذر مع هذه الاتفاقات. فرغم أن النظام المصري هو أول نظام عربي مُطبع إلا أنه لم يتحمس لهذه الاتفاقات -وقد أنعكس ذلك لاحقا في ملفاته الخارجية لاحقا- إذ رأى في هذا النوع الجديد من التطبيع سحب لرأس ماله الرمزي الذي كونه من علاقته التاريخية بالكيان بعد اتفاقية السلام 1978م، كما أن سياسة النظام المصري في التطبيع أن يظل التطبيع في دائرة صانع القرار والتمثيل الدبلوماسي فحسب، دون أن يتوغل في الشرائح المجتمعية السفلى، وهو عكس ما حصل في التطبيع الخليجي الذي مَدّ خط التطبيع إلى مستواه الشعبي، وأسس ما عُرف بالديانة الإبراهيمية، ورفع شعار الرخاء مقابل السلام، وفتح مسارات الحج الإبراهيمي، ومسار أبراهام، فضلا عن الاتفاقات الأمنية والعسكرية التي عُقدت، في حزمة انفتاح ثقافي ومجتمعي لم يكن يحلم بها العدو الصهيوني، وهو ما يُفسر التباين في الموقف الإعلامي الرسمي في كلا المنطقتين من إسرائيل، رغم عداوة كلام النظامين لحماس وحركات المقاومة عموما.

أما التطبيع في البلدان الأبعد قليلا، مثل المغرب والسودان، فسياقه سياق الدعم اللوجيستي المعلوماتي أحيانا والتسهيلات في القضايا الخارجية، وبخاصة مسألة الصحراء في المغرب، ورفع العقويات في السودان.

دين الانسحاب الجديد … في خدمة التطبيع!

أما المشهد الديني والفكري في المنطقة فقد شهد تطورات جمة هو الآخر. إذ تفككت البُنى التنظيمية للجماعات الإسلامية الكبرى وعلى رأسها تيارات السلفية الحركية (الصحوة) وجماعة الإخوان بمصر والتي كانت أقوى بُنى الإخوان حول العالم. وذلك بعدما أصاب التنظيم التكلس بعد الضربات الأمنية التي لاقاها، فضلا الفشل الداخلي -في جمع صفوف أعضاءه- والخارجي -في فشله تقديم نفسه رقما صعبًا في المنطقة- وهو ما انعكس بموجات من الانشقاق عن الجماعة أو الانكفاء الشخصي عنها.

بل أصبح الانتساب للجماعة في أي قُطر عربي له كُلفة أمنية وفكرية يفر الناس منها. ولم يبق لاسم “الإخوان المسلمين” حضور رسمي في بلد عربيّ سوى الأردن وسوريا بعد تحريرها. أما الأردن، فقد حُظرت الجماعة بعد انتخابات 2024م رغم فوز أعضائها بأغلبية البرلمان. وأما سوريا، فقد باتت ميول حكومة دمشق واضحة بأن السوريين مُرحب بخدماتهم طالما انضووا تحت الدولة دون الترحيب بأي رايات لجماعات سابقة، وهو ما يعني أن الترحيب بالجماعة -بوصفها كتلة واحدة- غير حاصل في سوريا.

أما الخليج فكان الوضع الديني مختلفًا في تشكله، فقد تَخلقت جماعات من الإسلام الانسحابي في أبو ظبي منذ العام 2013م مستعينة تارة بتيارات صوفية بلغت الغاية في التبرير للطغيان، حتى بررت التطبيع الكامل -بمفهومه الأمني والعسكري- بدعوى دراية وليّ الأمر بالصالح العام بحسب تعبير الشيخ محفوظ بن بيه مفتي الإمارات موريتاني الأصل، وتارة أخرى اُستعين بتيارات السلفية المدخلية لممارسة الدور التبريري نفسه.

ويتميز المداخلة بعدائهم الشديد للإسلاميين أكثر من أي فصيل آخر. ومع موجة التطبيع التي أشرنا إليها ظهر مشروع ديني فكري سُوق للتخديم على قطار التطبيع في المنطقة في صبغة فلسفية، ألا وهو مشروع الإبراهيمية. فقد توسل هذا المشروع بفكرة فلسفية وهي أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- هو السلف المشترك لليهود والمسيحيين والمسلمين وعلى أتباع هذه الديانات الثلاثة في المنطقة التوحد على قيّم إبراهيم المشتركة.

ورغم أنه مشروع فكري ديني -في صورته الظاهرية- إلا أنه أصبح يُستدعي في السياقات السياسية والأمنية التي شهدتها المنطقة، مما يعني أنه مشروع صبغته فكرية فلسفية لكنه يتحرك في إطار أوسع من ذلك بكثير، خصوصا مع دعم ترامب لهذا المشروع وتبني صهره جاريد كوشنر له ضمن ما عُرف وقتها بـ “صفقة القرن”.

أما الانفتاح الذي شهدته السعودية فقد كان له دور أيضا في تغير الحالة الدينية الخليجية بعموم، بل وتغير الصورة النمطية للمملكة السعودية التي ظلت لعقود تُعرف على أنها موطن السلفية الوهابية وداعمتها الأولى.

أما في مصر، فقد امتزجت المؤسسات الدينية الرسمية مع سياسات الدولة دون مخالفة تُذكر إلا من أفراد معدودين هنا وهناك من العلماء الكبار الذين بقوا داخل البلاد دون أن يُشكلوا خطرًا على النظام ولم يصطدم معهم النظام أيضا لكبر سنهم ومقامهم العلمي الكبير مثل الشيخ حسن الشافعي أو محمد أبوموسى. وزاد من تغير المشهد الديني رغبة السيسي الشخصية في تطوير الخطاب الديني في مصر وإحالة هذا الملف إلى أسامة الأزهري مستشاره الديني والذي سيصبح وزيرًا للأوقاف لاحقا.

لم يكن الأزهري على وفاق تام مع مشيخة الأزهر برئاسة الشيخ أحمد الطيب، والذي كانت له مناوشات مع رؤية السيسي الدينية في مسائل شهيرة مثل الموقف من السنة النبوية وحكم إيقاع الطلاق الشفوي وغير ذلك من قضايا التي طرحها السيسي باعتبارها تجديدًا دينيا في الفضاء العام، فضلا عن التصريحات التي يُدلي بها الرجل حول حرمة الدماء والحاجة لدعم فلسطين، لكن هذا السقف من الخطاب الذي مثله الطيب لا يتعدى الخطوط الحمراء المرسومة والمفهومة ضمنا في مصر. والمراقب للمشهد المصري لا يمكنه أن يتغافل عن توسع الدعم الصوفي الخارجي ذو التوجه الانسحابي وتغلغله في شرائح شبابية مختلفة، ويمثل عليّ الجفري عراب هذا المشروع.

أخيرًا وليس آخرًا، فقد نشطت مؤسسات حداثية وتنويرية أيضا لمحاربة تيارات الإسلام السياسي باسم العلم والتنوير، لكنها حقيقة أجندتها اتجهت إلى الإسلام ذاته. وهي وإن بقيت نخبوية إلى حد كبير إلا أن إنتاجها لا يمكن تجاهله في هذا السياق الكليّ الذي نتحدث عنه، ومن أهمها مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ومؤسسة تكوين الفكر العربي، ومنصة مجتمع.

التدافع: كيف تفكك هذا الذي حدث؟! 

لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم وفهمه بطرق شتى؛ أما الهدف فهو تغييره. ماركس

في أحد الحوارات (بودكاست) التي استضافت مدير جهاز استخباراتي عربي، قال: “يشعر رجل المخابرات دوما بالزهوّ أن ما خطط له يحصل في حياة الناس”. وبالفعل، هكذا يفكر من يُخطط للسيطرة وإعادة الضبط والتأطير لأطراف أرض الواقع، لكن الذي يخفى عن كثير من هؤلاء أن يد الله تعمل في الخفاء، وأن قدر الله غالب. ولا أدلّ على ذلك من أن مسؤول هذا الجهاز أصبح هو نفسه مطاردًا ولاجئنا عن بلده بعد فترة طويلة من ظنّه أن قادر على المسك بأطراف اللعبة كاملة فيها، وهذا أيضا ما حدث -ويحدث- في منطقتنا.

ففي عام 2023م كان الإقليم في حالة ركود تام. فالثورة السورية كانت في أشد ضعفها السياسي. بشار الأسد أعيد للجامعة العربية، وأعداء الأمس أصبحوا حلفاء اليوم، وحتى تركيا -عدو الأسد طوال الثورة- حاولت مرارًا الجلوس معه وتصفية القضية الثورية بالكلية. أما القضية الفلسطينية فقد أصبحت عبئًا كبيرًا ولم تعد القضية التي يتوحد عليها كل العرب كما كانت قديما، بل تبارت الدول العربية في قطار التطبيع وعُرض سيناريو الحلف العربي الإسرائيلي في مواجهة إيران، وهو ما يعني أن إسرائيل أصبحت في مخيال بعض الدول العربية جزءًا طبيعيا من البيئة العربية، ويحتاج العرب للتنسيق العسكري والأمني معها وليس أخذ موقف العداء منها. أما بقية الدول العربية فقد حسمت -أغلبها- معركتها الداخلية مع خصومها الداخليين ومعارضيها السياسيين، وبخاصة الإسلاميين، وبات التهديد منهم ضيئل جدًا بعدما جُففت منابعهم. 

وفي هذه اللحظة من تصفية كل القضايا الداخلية والتنسيق في القضايا الإقليمية كانت عصى أبي إبراهيم الذي شقت الطوفان في السابع من أكتوبر من العام 2023م، أي بعد 10 سنوات من التجفيف التام للمنطقة الذي بدأ من العام 2013م. كسر الطوفان حاجز الخوف، وقلب المعادلات وشعرت المكونات المختلفة أنها يُمكنها الفعل.

فبإطلاق محمد الضيف ويحيى السنوار ومروان عيسى شرارة الطوفان كانت رصاصته الأولى تصيب -أول ما تُصيب- مشروع التطبيع في مقتل، إذ وضعت القضية الفلسطينية في قلب الأحداث العربية. فلم تجرؤ دولة أخرى على مد حبل التطبيع على تمامه خشية الاستفاقة التي صاحبت الشعوب أول الأمر، ثم لفاتورة الدم الكبيرة التي سفكتها إسرائيل في آخره.

ومع تبدل الأوراق الإقليمية في الطوفان، غيرت إسرائيل أيضا من استراتيجيتها الدفاعية، وسعت لإخضاع المنطقة برُمتها، وأصبح أي تهديد -ولو صغير- لا يمكنها التهاون به، ففتحت نيرانها على كل الجهات التي تصنفها في خانة العداء وخاضت حربًا مفتوحة في فلسطين وسوريا ولبنان واليمن والعراق وإيران، لكن هذا لا يعود لقدرة إسرائيل العملاقة بقدر ما يعود لضعف المنطقة في المقام الأول.

كل ذلك فضلا عن التصفيات النوعية التي لجأت إليها في لبنان وإيران وسوريا وقطر. ومع هذا السُعار الإسرائيلي تفككت أضلاع محور المقاومة، والذي كانت حماس أحد امتداداته. فقد وُجهت ضربة قوية لحزب الله في لبنان انتهت بمقتل حسن نصر الله وعامة الصف الأول من قيادات الحزب، وطالت المُسيرات الإسرائيلية جماعة أنصار الله (الحوثي) في اليمن -وهو ضلع المحور الذي اسند غزة في حربها-، واُغتيل خبراء المفاعل النووي الإيراني في الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي استمرت 11 يوما.

في 11 يوما أُخرى نشبت معركة بين الفصائل السورية والنظام السوري. معركة (ردع العدوان) التي استغلت فيها الفصائل السورية في الشمال المحرر الوضع الإقليمي المضطرب، وبخاصة ضرب إسرائيل للمحور الإيراني، وانشغال الروسي في أوكرانيا – ثم تحيّده عبر تواصلات دبلوماسية كُشف عنها لاحقا- لبداية عملية سُميت أول الأمر بـ “ردع العدوان”.

لكن الله قدّر أن تكون معركة التحرير التي يتهاوى فيها نظام الأسد كما يتهاوى رجل الثلج حين تشرق عليه شمس الصيف. بيد أنَّ المفارقة أن الثوار قد وصلوا إلى قلب دمشق في أكثر لحظة يصعب التصديق بأن سقوط نظام الأسد أصبح وشيكًا. فالدول العربية كانت قد بدأت عملية تدوير الأسد، والنظام العالمي رضيّ بوجوده في اللعبة طالما استقرت له الأرض، والحِراك ضد هيئة تحرير الشام في المحرر كان قد بلغ أشده، لكن قدر الله نافد، وبركة الجهاد لها مفعول لا يخيب. وللمرة الثانية تتغير قواعد اللعبة.

ورثت السلطة الجديدة في دمشق ملفات معقدة، وانتهجت حكومة دمشق سياسات اختلف عليها الناس بين مؤيد ومعارض، لكن -ومهما يكن من أمر- فالصورة النهائية التي يدركها الجميع، والصهاينة خاصة؛ أن إسلاميين قد حازوا السلطة في سوريا وهو أخطر كابوس لم يكن في حُسبان العدو الصهيوني. وباتت القضية الفلسطينية قريبة من الشارع العربي، بينما الإسرائيلي يفقد قدرته على الدفاع عن سرديته عالميّا وتُستعاد عداوته بين الشعوب العربية.

أما على المستوى الديني والفكري في هذه السنوات فكان أمرًا ذا شأن أيضا. نعم قد تلاشت التيارات الإسلامية الكبرى في كثير من الأقطار، واُستهدف كثير من الإسلاميين بالتغيب والاعتقال أو الصمت والتهجير، وأُسست المبادرات الفكرية والدينية التي يُطعن بها في الإسلام باسم مشاريع الحداثة والتنوير أو مشاريع الإبراهيمية والسلم المطلق.

بيد أن الضفة الأخرى من النهر كانت مغايرة. فقد ظهرت عدد من الكتابات الفكرية والمؤسسات البحثية التي ما كان لها أن تظهر لولا هذه المدافعة التي حصلت. ومع انحسار الجماعات الإسلامية في أرض الواقع انتشر تيارًا شبابيًّا انفتح وعيه على الأمة عبر الأثير، وتكون إلكترونيا في برامج هي في ظاهرها مجموعات تعليمية، لكنها تحمل أيضا حالة من الوعي التام بالدين المُحمدي ومعالمه الكبرى، فلا يطغى العلم فيها على العمل، ولا ينفصل فيها الدين عن حياة الناس ومعايشهم. وقد تخمرت هذه الحالة لسنوات عدة حتى شكلت حالة من حالات النضج التي يسهل عليها ملئ أي فراغ توجد فيه.

ولذا وجدنا بعض المنتسبين لهذه الحالة ممن يعبرون أسوار المستوطنات الإسرائيلية في الـ 7 من أكتوبر، أو من العاملين في ميدان الإصلاح والخير في الميادين التي فُتحت في سوريا، فضلا عن بقية البلدان التي وُجد فيها مثل هذا. والملاحظ -بعموم- بعد تحرير سوريا أن المزاج الإسلامي الذي طفى على السطح بين العاملين للدين بعموم هو التعاون على الخير والصلاح مع إقصاء المتطرفين من غلاة السلفية والأشعرية من الفضاء العام، وهو ما يؤذن بخير إن استمر في بقية البلدان وتوحد الناس على قضايا المسلمين التي تنتظر من يعمل لها.

ماذا ينتظرنا؟

فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

الغيب يعلمه الله. لكن سنن الله في كونه أن شدة الظُلمة يعقبها انفراجة النور. وأنه يُهلك الظالمين المستكبرين. يتحدث الناس عن التغيرات السياسية والنظر الاستراتيجي، وينسون أن هذه التغيرات السياسية وهذا النظر الاستراتيجي إنما هي بتقدير الله وتدبيره. فقدر الله إنما يتجلى في الأسباب، لكنه لا يفتقر إلى الأسباب.

ومن تأمل الأحداث التي نعيشها بهذا المعنى انفتح له أفقًا من الغيب لم يكن ليشهده بوطأة الحياة المادية التي نحياها. وفي كتب السير أن كسرى فارس أرسل في طلب رسولنا صلى الله عليه وسلم فلما بلغه رسول كسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ رَبِّي قد قتَلَ رَبَّكَ” يعني أن كسرى قُتل. فلما رجع وجدوا ابن قد قتله، لكن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- “إن ربيّ قتل ربك” وشهوده أن قتل الولد لأبيه إنما هو فعل الله في كونه = يفتح أفقًا كبيرًا في النظر لا يعلمه من يقف عن ماجريات المادية اليومية. ولذا فإن أهم ما نقدمه لأنفسنا اليوم ألا نقيس أحداثنا بمقاييس اللحظة الآنية، وإنما نقيسها بمداد سنن الله في كونه، وسنن الله أن يقصم الظالمين المتجبرين، ولاشك أن ما نحن فيه -في سننه سبحانه- إنما هو إيذان بعودة الأرض المقدسة التي كتب الله لعباده، خاصة مع شدة إفساد القوم الضالين.

ثم الذي ينتظر كل إنسان منا هو العمل في المتاح والمستطاع في نفع هذه الأمة التي تبحث عن أبنائها البررة. فالواقع المشاهد من حولنا يُخبرنا بأننا في زمن يصدق عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العامل فيه له أجر خمسين رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن لا يجد مكانا للعمل فليحسن شيئا ويعد فيه العدة للعمل، ثم ليبذل وسعه وليستفرغ طاقته في إيجاد مكان يعمل فيه لهذا الدين.

وإن من العمل للدين العمل بالجهاد والسياسة والثقافة والاستراتيجا والتسليح والعسكرة والحوسبة والإعلام والقيام على شؤون الناس بما يصلحهم، فلا ينحصر العمل للدين في الجلوس في المساجد والتحلق في مجالس العلم أو إقامة الشعائر العبادية المحضة، على شريف هذه الأبواب لاشك وأنها الأصل والأساس الذي يُنطلق منه ويُبنى عليه. لكن الأمة المحمدية التي عرفت في الصدر الأول أزهد الناس (أبو ذر الغفاري) هي التي عرفت أسخى الناس وأوسع مالا (عثمان بن عفان)، والتي عرفت أصدق الناس (أبو هريرة) هي التي عرفت أحنك القادة العسكريين وأكثرهم فطنة (خالد بن الوليد).

ومن نظر لأمته بامتدادها بهذا الشمول، سهل عليه طريقه إلى الله، وعلم أن ميادين البذل تتسع باتساع أنفاس المسلمين، وعلم أنه طريق لا خسارة فيه، وإنما الخسارة أن يتكالب الأعداء على أمته ثم لا يكون هو سهم في كنانتها. فعلينا ألا نحسب الأحداث بلحظتها بل بمآلاتها، وفي سبيل ذلك نحتاج إلى وعي مركّب بالواقع بمختلف أبعاده فيدخل في ذلك التاريخ والجغرافيا وواقع العدو والصديق وفهم السنن الإلهية، وإلى ملئ لهذه المساحات بأيدينا لا بأيدي غيرنا، وقبل ذلك وبعده: إلى توكل واستعانة باللطيف الخبير سبحانه.