السودان المنسية وحرب الوكالة الكبرى

آخر تحديث: 27 أكتوبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

21 mins

قبل عامين ونصف من اليوم وتحديداً في الخامس عشر من أبريل 2023 اندلعت واحدة من أكبر الحروب التي شغلت الواقع الإقليمي والعالمي عندما تصادمت ميليشيات الدعم السريع والجيش السوداني في عاصمة البلاد؛ الخرطوم. 

تدريجياً انتشرت هذه الحرب في باقي ولايات السودان، وخلَّفت وراءها أسوأ الكوارث الإنسانية والأزمات المعيشية التي لم يسبق أن تصل إلى هذا المستوي في تاريخ السودان الحديث، فيما تتصدّر الفاشر المشهد راهناً بحصارٍ ممتد منذ 10 أيار 2024 واشتباكات متواصلة على محاورها الغربية، وأوضاع إنسانية حرجة لآلاف الأسر داخل مدينة مكتظّة بالنازحين مع نقص حادّ في الغذاء والدواء والمياه وانقطاع الإمداد اللوجستي والجوي، وتضارب بيانات الأطراف بين ادعاءات السيطرة وتأكيدات على صمود أحياء ومقار وسط مخاطر متفاقمة على المدنيين، خصوصاً الأطفال وكبار السن. 

فمثل غالب الدول التي استعمرها الغرب وأعادوا هيكلتها بطريقة تخلق الأزمات المتكرر حتى بعد خروج المحتل، فإن تاريخ السودان الحديث بعد الاستقلال مليء بالحروب والاقتتال، بل إن أطول حرب في تاريخ إفريقيا المعاصرة وقعت في السودان، وهي الحرب بين الحركة الشعبية في ولايات جنوب السودان وبين الحكومات السودانية المتعاقبة على حكم البلاد منذ الاستقلال والتي امتدت من 1955 وحتى 2005 ثم انتهت لاحقاً بانفصال جنوب السودان عن شماله في العام 2011.

مع ذلك فيمكننا المجادلة بأن حرب أبريل 2023 من الأحداث الكبرى في تاريخ السودان الحديث، وهي في الأهمية والتداعيات الاقتصادية والسياسية ربما لا تقل درجة عن أحداث مثل استعمار محمد علي باشا والاستعمار البريطاني للسودان.

وإذا كان هذان الحدثين لعبا الدور الأكبر في تشكيل حاضر السودان الذي نعيش فيه، فإن حرب أبريل 2023 ستعلب دوراً مركزياً في تشكيل مستقبل السودان. أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الدور المركزي لحرب أبريل 2023 يرجع إلى حجم التأثير والخراب غير المسبوق في تاريخ الحروب السودانية السابقة، فمنذ اشتعال الحرب رُصد ما يفوق ال 62,000 قتيل، مع أن الإحصاءات الحقيقية في الغالب أكبر من هذا العدد[1].

أزمة نزوح

أيضاً، تسببت هذه الحرب في نزوح 14 مليون مواطن سوداني من مساكنهم، وهو ما يمثل أكبر أزمة نزوح في العالم، أما عدد المحتاجين لمساعدات إنسانية عاجلة فقد قارب 25.6 مليون فرد-هذا العدد يزيد عن نصف سكان السودان[2]. لم يكن واقع المؤسسات والخدمات العامة أفضل من حال الأفراد، فما يزيد عن 70% من المنشئات الصحية خارج العمل حالياً[3]، و23,000 مدرسة (تمثل ما يزيد عن 90% من عدد المؤسسات التعليمية في السودان) أما أغلقت أو أن الوصول إلى أصبح متعذراً أمام الطلاب، وهو ما تسبب في حرمان 19 مليون من الأطفال في سن المدرسة من الحصول على خدمات التعليم الرسمي “أي أن السودان الآن يمثل أسوء أزمة تعليم في العالم”[4]!

في هذا التقرير المختصر، سنحاول تقديم رصد مختصر لمراحل النزاع، ومناقشة للسؤال المركزي حول من هو المسؤول عن انشاء ومأسسة مليشيات الدعم السريع، ومن ثم تحليل جذور هذا الصراع، وأخيراً ماهي التحديات المستقبلية التي تواجه السودان وماهي الدروس المستفادة من هذه الحرب لباقي الدول في الجنوب العالمي.

 الخط الزمني للأزمة: أبرز محطات حرب السودان

يمكن الحديث عن ثلاث مراحل مركزية تشرح تطور الحرب في السودان، هذا التقسيم يعكس تغيير الأوضاع وموازين القوى بين الجيش السوداني وحلفاؤه وبين ميليشيات الدعم السريع ومموليها[5].

أ- مرحلة الصدمة الأولى وخيانة المليشيا (أبريل 2023- مطلع 2024): اندلاع الحرب وتوسع دائرة الصراع:

حيث انفجرت المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إثر خلافات حول دمج الأخيرة في الجيش بعد الاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022)، وبدأت شرارتها في الخرطوم كما ذكرنا سابقاً، ثم امتدت سريعاً إلى ولايات أخرى. ومنذ منتصف أبريل وحتى مطلع 2024، تمددت رقعة الحرب إلى دارفور وكردفان والجزيرة، ونجحت ميليشيات الدعم السريع في السيطرة على مدن ومواقع استراتيجية بما فيها الخرطوم وأجزاء واسعة من وسط وغرب السودان مع توسعهم في المجازر والانتهاكات في حقوق السودانيين قتلاً وتعذيباً وسرقة. كانت الصفة الرئيسية في هذه الحقبة هو علو موازين القوة لدي الميلشيا، والتزام الجيش وحلفاؤه باستراتيجية الدفاع، وتبديد عامل المفاجأة للميليشيا، ومن ثم رصد استراتيجيات تحركات وتكتيكات هجوم المليشيا مع التكييف على حرب المدن التي لم يكن الجيش السوداني متدرباً عليها.

ب- العبور الكبير للجيش السوداني وتحولات موازين القوة (سبتمبر 2024- مارس 2025)

في سبتمبر 2024 حدث تغيير نوعي واستراتيجي في الحرب حيث تحول الجيش السوداني من موضع الدفاع إلى موضع الهجوم وذلك عبر تنفيذ ما يعرف ب “العبور الكبير” وهي العملية العسكرية التي نفذها الجيش السوداني لعبور نهر النيل الأبيض نحو أم درمان بعد أكثر من عام من سيطرة ميليشيات الدعم السريع على غرب الخرطوم، حيث تمكنت قوات الجيش عبر جسر الإنقاذ ومعابر نهرية أخرى من كسر الطوق الجغرافي الذي فرضته الميليشيا على المواقع الاستراتيجية في الخرطوم والتي كانت تضع الجيش في خانة الدفاع وتحد من إمكانية خطوط الإمداد والتحرك. هذا العبور منح الجيش موطئ قدم داخل أم درمان وأعاد له زمام المبادرة بعد سلسلة من الخسائر، كما فتح الطريق أمام استعادة مواقع حيوية مثل الإذاعة والتلفزيون، ومهّد لاحقًا لعمليات أكبر انتهت باستعادة معظم الخرطوم في مارس 2025. في تلك الفترة كذلك، فرضت الحكومة الأمريكية وغيرها العقوبات الدولية على قادة المليشيا وقادة الجيش السوداني، كما اتسمت تلك الفترة بزيادة الانشقاقات وسط الدعم السريع.

ج- تحرير الخرطوم مارس 2025 وظهور التحالفات العلنية الداعمة للميلشيا والانتقال من حرب الوكالة للحرب المباشرة (مارس 2025- سبتمبر 2025)

بعد مرحلة العبور الكبير، واصل الجيش السوداني تقدمه ليستعيد سنجة وجبل مويه في ولاية سنار، ثم ليحرر مصفاة الجيلي النفطية شمال الخرطوم ومدينة ود مدني في ولاية الجزيرة في بدايات العام 2025، إضافة إلى تقدمه في النيل الأبيض وسيطرته على القطينة. هذه الانتصارات المتراكمة ضيّقت الخناق على ميلشيا الدعم السريع داخل الخرطوم، وصولًا إلى استعادة الجيش القصر الجمهوري والبنك المركزي ومطار الخرطوم الدولي في مارس 2025. وفي 26 مارس 2025 خرج الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، ليعلن من داخل الخرطوم بأن “الخرطوم حرة وانتهى الأمر”.

كردة فعل على هذا التقدم العسكري والانتصار الواسع للجيش السوداني والانكسار والهزائم المتكرر للميلشيا الدعم السريع، لجأت ممولي الدعم السريع إلى خطوتين: الأولى هي إعطاء صبغة مدنية للميلشيا عبر عقد تحالف سياسي بينها وبين قوى الحرية والتغيير، حيث وقع “تحالف السودان التأسيسي”، وهو فصيل رئيسي منشق من الحرية والتغيير ومساند للميلشيات الدعم السريع، دستوراً جديداً يقوم على العلمانية واللامركزية وتكوين جيش جديد. 

أما الخطوة الثانية فهي انتقال الحرب من “حرب الوكالة” التي تمولها الإمارات العربية التي وفرت الأموال والأسلحة للميليشيا إلى “الحرب المباشرة” بهجمات مسيرات على مدينة ومطار بورتسودان في مايو 2025، وهو ما ردت عليه الحكومة السودانية بردود عسكرية وسياسية ودبلوماسية، حيث أعلن الجيش إسقاط عدد من الطائرات المسيرة ونشر منظومات دفاع جوي إضافية حول المطار والميناء، وصرّحت القيادات العسكرية بأن المسيرات دخلت من جهة البحر الأحمر واتهمت الدويلة العربية باستخدام قواعدها البحرية لدعم العملية. بشكل عام وفي هذه المرحلة الأخيرة من الحرب فقد تعزز ميزان القوى لصالح الجيش السوداني وتحولت استراتيجية الميلشيا ومموليها من احتلال السودان عبر انقلاب عسكري يمكن لقيادات المليشيات إلى استراتيجية تقوم على بناء شرعية سياسية للميلشيا في غرب السودان (مع اتخاذ نيالا كعاصمة للميلشيا) تمهيداً لتوظيف هذه الشرعية السياسية في بناء كيان سياسي جديد يزعزع من شرعية الجيش السوداني ويوفر الغطاء المدني للحصول على مزيد من الدعم الخارجي والتسليح المتقدم من قبل ممول المليشيا.

وهنا يتبادر سؤال بدهي في ذهن كل قارئ مفاده من هو المسؤول عن دعم مليشيات الدعم السريع وتمكينها من كل هذا العتاد والجنود الذين فاقوا ال 100 ألف جندي لتصبح قادرة على شن حرب واسعة استمرت عامين ونصف ضد الجيش السوداني الوطني؟

مليشيات الدعم السريع – من المسؤول؟

في ديسمبر 2024 ظهرت الأستاذة سناء حمد، السفيرة السودانية السابقة والمحسوبة على نظام المؤتمر الوطني، في لقاء بودكاست مشهور وتحدثت فيه عن سردية متداولة حول “عرب الشتات” ومشروع أرض الميعاد الاستيطاني لعرب غرب أفريقيا والظروف والفاعلين الدوليين وراء هذا المشروع.

الأمر الهم في ذلك اللقاء هو تبرير الأستاذة سناء حمد لدور المؤتمر الوطني (الجناح السياسي للحركة الإسلامية السودانية) في تأسيس “قوات الدعم السريع”، وأن ذلك كانت ممارسة متبعة في تاريخ الدولة السودانية منذ الاستقلال. وهو أمر غريب حيث إن ممارسات السابقين لا تملك القدرة على إعطاء الشرعية والمقبولية لفعل الخطأ الكارثي؟ ولا يمكن أن يرد أنصار المؤتمر الوطني (نظام الإنقاذ) والإسلاميين على فكرة أن الدعم السريع هو خطيئة الرئيس المخلوع عمر البشير ونظامه الذي لا يزال يخترق في جسد الدولة السودانية حتى اللحظة!

فمعروف تاريخياً أن البشير والإنقاذ قد اعتمدت على هذه القوات لإخماد التمرد في دارفور، ومن ثم جعلت الإشراف عليها من اختصاصات جهاز الأمن والمخابرات الوطنيّ في أغسطس 2013. ثم قام البرلمان السوداني تحت نظام الإنقاذ بإجازة قانون “الدعم السريع” في العام 2017 وجعلها قوة أمن مستقلة تابعة للقوات المسلحة، ففي ذلك القانون كان “الدعم السريع قوات عسكرية قومية التكوين، وتتقيد بالمبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية”، وهو نفس العام الذي مدح فيه البشير هذه القوات وصرح قائلاً “أحب القرارات وأفضلها لي هو قرار تكوين قوات الدعم السريع، وهي الذراع القوية للقوات المسلحة”.

كان ولاء حميدتي وقواته خاضع للبشير بشكل مباشر، وكان البشير يستخدمها ككرت ضغط عسكري/أمني/سياسي ضد الانقلابات المحتملة من داخل نظام الإنقاذ ومن داخل الجيش، كما استخدمها مثلاً لتأييد قرار إعادة ترشيحه لفترة رئاسية ثالثة (وهذا أمر مخالف للدستور السوداني) قبل شهور من ثورة ديسمبر 2018. وقتها وعندما تعالت أصوات الاعتراض على ترشيح البشير داخل الحركة الإسلامية وداخل الإنقاذ وبعض دوائر الجيش، صرح حميدتي في يناير 2018 “الدستور ليس قرآناً منزلاً ليمنع ترشيح البشير لدورة رئاسية ثالثة”. 

في هذا السياق، وبالرغم من أن سناء حمد لم تتطرق له كثيراً، فإن عملية المأسسة والتمكين الثانية لحميدتي وقواته ونقلها من مجرد فرقة أو قوات تخضع لجهاز الأمن والمخابرات أو الجيش السوداني لثاني أكبر قوى عسكرية مستقلة في البلاد وله استخباراتها وشركاتها الخاصة، مع إمكانات وانتشار في الولايات وأسلحة/عتاد يجلها قادرة على إحداث توتر عسكري مثل حرب أبريل 2023.

حصلت هذه المأسسة الثانية في الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018 والمسؤولين الملامين في هذا الأمر هم أولاً البرهان قائد الجيش السوداني الحالي، والذي كان يستقوي بحميدتي في صراعه مع المدنيين، وثانياً قوى الحرية والتغيير بكل أطيافها التي لم تتخذ موقفاً جاداً من توسع الدعم السريع بل شرعت ذلك التوسع على طوال السنوات الأربع الماضية بالحديث عن “الشراكة والتناغم بين المدنيين والعسكريين”.

بالتالي، فإذا كانت الإنقاذ والبشير قد خلقت خطيئة حميدتي والدعم السريع، فيمكننا القول بصورة واضحة بأن “طموح وخيال” حميدتي بأن يتوج حاكماً على السودان تبلور بصورة رئيسية خلال سنوات الفترة الانتقالية!

سردية سناء حمد في النظر لحرب أبريل 2023 تدفعنا للحديث بأنه، وعندما يتعلق الأمر بفهم جذور الحرب ومحاولة استخلاص الحكمة والعبرة منها، فإن أبرز خطأ جماعي يقع فيه كثير من الصحفيين والمراقبين والباحثين = هو محاولة فهم هذه الحرب عبر مواضيع أو أدوات ليست في مستوى هذا الحدث. مواضيع مثل:

ثورة ديسمبر 2018، ثنائية (البحر والنهر)، تحالف القوى المدنية العلمانية مع الميليشيا، ثنائية صراع العلمانيين والإسلاميين، بل وحتى سردية التدخل الخارجي والاستعمار الجديد، الخ كل هذه المداخل مفيدة للتحليل السياسي الراهن قصير المدى ومدى تدهور الدولة السودانية، لكنها غير كافية للفهم الجاد لجذور هذه الحرب ومن ثم استخلاص الحكمة والعبرة منها لفترة ما بعد الحرب ومستقبل السودان.

دراسة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجذرية التي جعلت من هذه الحرب واقعاً، والتجارب الإصلاحية السياسية والاجتماعية الكبرى في التاريخ السوداني، مع دراسة الاقتصاد السياسي لممارسة والقرار السياسي في السودان و الديناميكيات الجيوسياسية في الإقليم وإفريقيا هي مداخل أولية أفضل للفهم واستخلاص العبرة.

 الصراع في السودان وجذور الاقتصاد السياسي للأزمة

أ- المؤشرات الاقتصادية العامة التي سبقت اندلاع ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018

شهد السودان في السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة استقرارًا اقتصاديًا بسبب عوائد البترول، وأثر ذلك في خلق حالة من الاستقرار السياسيّ النسبي داخل النظام الحاكم. لاحقاً، وبعد انفصال جنوب السودان في كانون الثاني/يناير 2011 وذهاب قرابة الـ 75 % من عوائد البترول، قامت الحكومة السودانية بالتعويل على صادرات الذهب والسعي لمزيد من القروض الدولية لتوفير العملة الأجنبية وانعاش الاقتصاد.

هذه الجهود اصطدمت بعائق تهريب أكثر من نصف إنتاج السودان من الذهب[7]، والعقوبات الأمريكية التي تنص على وضع السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب والتي أثرت بصورة مباشرة في مقدرة السودان في جذب الاستثمارات الأجنبيّة أو الاستفادة من فرص تخفيف عبء الديون (debt relief)” تحت مبادرة “البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (The Heavily Indebted Poor Countries- HIPC Initiative)”. 

أدى ضعف المصادر الثلاثة الدارة للعملات الأجنبية (البترول، الذهب، الاستثمارات والتمويل الخارجي)، بالتوازي مع ضعف الإنتاج الزراعيّ والصناعيّ، إلى انهيار قيمة الجنيه السودانيّ، وبلغ الانهيار ذروته في العام 2018، الذي يعد أصعب عام مر على المواطنين السودانيّ في المناطق الحضرية منذ دخول الألفية الثالثة.

فقد انخفض السعر الرسمي للجنيه السوداني من 7 جنيهات مقابل الدولار الأمريكي الواحد في بداية 2018 إلى 47.5. كما قفز معدل التضخم عدة مرات ليصل إلى %68.94 في تشرين الثاني/نوفمبر 2018[11]. كما أدى ذلك إلى خلق أزمة سيولة حادة، وأصبح الناس يقفون في طوابير لساعات طوال خلف الصِرفات الآلية لصرف مبالغ نقدية من أرصدتهم البنكية، تفي احتياجاتهم اليومية. كما ظهرت أزمة توفير الوقود وشحه.

هذه الظروف الاقتصادية الحرجة، فضلاً عن سياسات التقشف ورفع الدعم عن الخبز التي طبقتها الحكومة في أواخر 2018، من الأسباب الرئيسية وراء اندلاع ثورة كانون الأول/ديسمبر [12]2018، التي نجحت في الإطاحة بالرئيس البشير في نيسان/أبريل 2019، وتعيين الحكومة الانتقالية لثورة كانون الأول/ديسمبر بعد اتفاق 17 آب/أغسطس 2019، شراكة بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي.

ومع أن المؤشرات الاقتصادية المذكورة أعلاه ظلت مسار حديث الشارع ونقاش الخبراء عن الأزمة الاقتصادية السودانية إبَّان الثورة؛ مع ذلك أجادل هنا بأن هذه المؤشرات الاقتصادية هي عَرض لأزمة الاقتصاد السياسي السوداني المستمرة منذ عقود في تهميش شرائح واسعة من المواطنين في الريف السوداني، والعاجزة عن إحداث تحول تنموي للاقتصاد أو توسيع قاعدة المشاركة السياسية عبر تحول ديمقراطي أو نظام حكم يعمل وفق مصالح عامة المواطنين. 

ب- ثالوث الأزمة: الانحياز الحضري ورأسماليّة المحاسيب والهيمنة الأمنيّة/العسكريّة

ظهر الانحياز الحضري كعنصر مؤثر في السياسة السودانيّة منذ السنوات الأولى للدولة السودانيّة الحديثة، كنتيجة طبيعيّة لسياسات التهميش والتنمية غير المتوازنة، التي بذرها الاحتلال البريطاني (1898-1956)، ثم سارت عليها الحكومات الوطنيّة بعد ذلك، مما أدي إلى تكوين مجموعات سياسيّة ريفية تقاوم هذا الانحياز الحضري مثل مؤتمر البجا في 1957، واتحاد عام جبال النوبة، وجبهة نهضة دارفور اللذان تأسسا في 1964.

واستمر هذا الانحياز الحضري بعد الاستقلال، حيث نجد السلطة السياسية والمناصب القيادية في الدولة ظلت مُحتكرة لمناطق حضرية معينة. ففي الفترة بين الممتدة بين 1954-1989 حازت الخرطوم والإقليم الشمالي، والذي يمثل 14 % فقط من سكان السودان في العام 1988، على نحو 88 % من وكلاء الوزارات ومديري المؤسسات الحكومية[14].

والانحياز الحضري ليس مقصوراً فقط على المناصب العليا والسلطة السياسية، بل يشمل حتى الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وأمان ودعم اجتماعي. على سبيل المثال، ففي الوقت الذي تتوفر فيه نسب الاستيعاب للتعليم المقبولة عالمياً لمن هم في سنة سبع سنوات في كل من الإقليم الشمالي والاستوائية بنسبة 84-97 % وأقل من ذلك قليلاً في الخرطوم والأوسط 73-76 %، تتدنى هذه النسب إلى أقل من النصف وأحياناً أقل من 10 % في بقية الأقاليم[15]

ثانياً، بصورة عامة، يشير مصطلح رأسمالية المحاسيب إلى نظام اقتصادي تعتمد عملية تراكم الثروة والنفوذ فيه على العلاقات والمصالح المتبادلة بين التجار ورجال الأعمال وكبار الموظفين والمسؤولين الحكوميين، والتي تكون على حساب المصلحة العامة وعلى حساب تطوير بنية الاقتصاد وهيكل الإنتاج. بذات المعنى، وفي السياق السوداني، فمنذ حقبة الاستعمار وحتى ثورة كانون الأول/ديسمبر، ظل الاقتصاد الوطني يعمل لصالح فئة-أقلية حضرية، وسادت الأوضاع التي تتمكن فيها مجموعات مصالح قليلة، بدلاً من عامة المواطنين، من الاستئثار بالفائض الاقتصادي والثروة الوطنية.

وبذلك غرست الإدارة الاستعمارية بذور رأسماليّة المحاسيب في بنيّة الاقتصاد السودانيّ. قامت فاطمة بابكر محمود، على سبيل المثال، بدراسة مسحيّة تطبيقيّة على الطبقة البرجوازيّة أو الرأسماليّة في السودان في أواخر السبعينيات أي بين عام 1977 وحتى 1979، فوجدت أن 78 % من الرأسماليين السودانيين كانوا ذو معرفة شخصيّة بوزير أو وكيل وزارة المالية. وتعني هذه الإحصاءات أن النخبة الحاكمة لم تكن فقط تسيطر على الحلبة السياسيّة، بل كانت تُحكم قبضتها على القطاع الاقتصاديّ[16].

إضافة لما سبق، فالممارسات الريعيّة ورأسمالية المحاسيب استمرت في عهد نظام الإنقاذ (1898-2019) وتطورت بشكل كبير. ولذلك لم يكن مستغرباً التصريح الذي صدر عن وزير التجارة والصناعة موسى كرامة قبل شهرين من الثورة، أي في تشرين الأول/أكتوبر 2018، حين قال بأن هنالك ستة أشخاص يتحكمون في تجارة السكر والتمويل المصرفيّ لتلك التجارة، كما أشار إلى أحد عشر شخصاً بينهم سياسيين يتحكمون في سوق الأسمنت، وطالب في ذلك التصريح بإعادة النظر في سياسات التحرير الاقتصاديّ وتفعيل قانون محاربة الاحتكار[17].

ثالثاً، من الصعب تخيل إمكانية تطبيق نظام اقتصاد سياسي يعمل لصالح العواصم الحضرية الضيقة على حساب الغالبية العظمي من سكان الريف، وداخل العواصم الحضرية نفسها نجد هذا النظام يعمل لصالح فئة قليلة من رأسمالية المحاسيب، من الصعب أن يستمر هكذا نظام إلا بوجود العنصر الثالث ألا وهو قوة البطش وعنف الدولة، وهو ما نطلق عليه الهيمنة الأمنيّة/العسكريّة على ممارسات الدولة السودانية الحديثة.

وبما أن هذه الهيمنة العسكرية كانت الوسيلة الأساسية للاحتفاظ بالامتيازات والفائض الاقتصادي والسيطرة على المجتمع منذ العهد الاستعماري، عليه أصبح الصراع والتنافس على “قبض الدولة” وجهازها البيروقراطي والعنيف عبر الانقلاب أو إحكام السيطرة العسكرية القائمة هو الاستراتيجية الغالبة في الصراع السياسي السوداني منذ الاستقلال دون أدنى تقدير لاختبار الثقة الشعبية[18].

ج- كيف ساهمت هذه الأوضاع في مأسسة وصعود ميلشيات الدعم السريع وفتحت الباب أمام التدخل الإماراتي في السودان؟

كانت شيوع “الانحياز الحضري” أحد الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت “نموذج العمل Business Model” للمليشيات هو نموذج جاذب لإنسان الريف السوداني، وخصوصاً شباب الريف السوداني الذين شكلوا الوقود الحي والأساسي لقوات الدعم السريع (وغيرها من الميليشيات) وقاتل من أجلها.

وذلك أن تهميش الريف السوداني من حيث توفير التعليم والصحة وفرص العمل والتوظيف، جعل الانضمام للميليشيات العسكرية هو أفضل وسيلة للكسب المال وتوفير الاحتياجات خصوصاً وسط شريحة الشباب. كما استفادت ميليشيا الدعم السريع من نمط رأسمالية المحاسيب لتكوين بنية تحتية اقتصادية وموارد مالية تستطيع بها شراء الولاءات وتمويل عملياتها ومرتبات جنودها.

فقد سيطر الدعم السريع على جزء معتبر من صادرات الذهب بالإضافة إلى تأسيس هذه الميليشيات لشركة الجنيد وغيرها من الشركات لإدارة عمليات التعدين وبيع الذهب والاستثمار في عدد من القطاعات التجارية الأخرى[19]، بالإضافة طبعًا لعلاقات هذه القوات بالدول الخارجية والدعم الخارجي عبر مساهمتها في حروب خارجية بالوكالة مدفوعة الأجر. أيضاً سيطرت هذه الميليشيا على مناجم متعددة للذهب في دارفور ومناطق شمال السودان. حيث يسيطر حميدتي على جبل عامر للذهب في دارفور منذ 2017، ويسيطر كذلك على ثلاثة مناجم أخرى في جنوب كردفان منذ العام 2017[20]

ومن ثم توسعت لتتملك النصيب الأكبر من بنك الثروة الحيوانية بعد ثورة ديسمبر، ثم تشاركت مع رأس المال الإقليمي للاستحواذ على النصيب الأكبر من حصص المساهمين في بنك الخليج كذلك[22].  كل هذه الظروف الاقتصادية السياسية هي التي ولدت هذه الميليشيا المتمردة، وهي التي مكنتها من مأسست وجودها على الأرض، واعطيتها القدرة على توظيف وتجنيد ما يفوق ال 100,000 جندي مقاتل، وجعلها الخيار الأمثل الذي اتخذته قوى الاستعمار الحديث لتغزو أرض السودان. وما لم يتم معالجة هذه الجذور، فإن السودان موعود بمزيد من الحروب والاقتتال. 

سيناريوهات مستقبل الحرب في السودان

بناءً على عدة تقارير استشرافية وتحليلية، يمكننا الحديث عن ثلاث سيناريوهات محتملة:

أ- تشير بعض التحليلات إلى أن السودان بات «آلة فوضى» قادرة على إنتاج أزمات مستمرة قد تمتد آثارها إلى القرن الإفريقي والساحل. ترى هذه التحليلات بأن أحد السيناريوهات المحتملة لمستقبل الصراع في السودان يتمثل في استمرار حرب مطوّلة مع تفكك إقليمي، حيث يظل النزاع بين الجيش السوداني وميلشيا الدعم السريع ممتداً دون حسم عسكري، ما يؤدي إلى بقاء مناطق متفرقة تحت سيطرة متقابلة، وتحول الواقع تدريجياً إلى كيانات محلية أو «دويلات» ذات إدارة متنافرة.

تقود هذا المسار محرِّكات أساسية أبرزها: الدعم الإقليمي المتبادل للأطراف، استنزاف قدرات الدولة المركزية، وانهيار البنية الاقتصادية. وتظهر مؤشرات مبكّرة لذلك في تجدد خطوط الجبهات دون اختراقات استراتيجية، تنامي أدوار الفصائل المحلية، واتساع شبكات التهريب والولاءات المتقلبة. أما الآثار فتشمل تفكك اقتصادي واجتماعي بين الأقاليم، استمرار النزوح الداخلي، وتزايد صعوبة وصول الإغاثة[23].

ب- السيناريو الثاني يتمثل في انتصارات متتالية عسكرية للجيش السوداني كامتداد لنمط انتقال الحرب الذي تحولت فيه موازين القوى لصالح الجيش. حيث يمكن أن يستفيد الجيش من سلاحه الجوي، مع دعم إقليمي/دولي مباشر، بالإضافة إلى تسارع التعلم والتكيف الداخلي لجنود وقيادات الجيش. وهنالك مؤشرات تدعم هذا السيناريو تتمثل في وصول أسلحة نوعية للجيش، وتكثيف العمليات الجوية، إلى جانب تحركات دبلوماسية دولية مؤيدة للحكومة المدنية التي كونتها قيادة الجيش.

ولكن حتى مع هذا السيناريو الذي ينتصر فيه الجيش السوداني، يتوقع استمرار مقاومة مسلحة في مناطق تتمتع بالولاء والتحالف مع الميليشيا. أيضاً، فمن دون معالجة جذور الأزمة التي أفرزت هذه المليشيا، فمن المتوقع أن تحدث مثل هذه الحروب مجدداً![24]

ج- أخيراً، السيناريو الثالث يتمثل في تسوية هشة لتقاسم السلطة حيث يقود الضغط الدولي والإقليمي إلى وقف إطلاق نار مؤقت اتفاق هش بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتقاسم السلطة. لكن نتائج هذا المسار غالباً ما تقتصر على اتفاقات مؤقتة تكرر نمط التجارب السابقة، حيث شهد السودان أكثر من 46 اتفاق سلام منذ 1956 دون أن تُعالج جذور الصراع المتمثلة في التهميش البنيوي، الفقر، وغياب العدالة الانتقالية. وطبيعة مثل هذه التسويات تتضح في كونها حلولاً سطحية تؤجل الانفجار أكثر مما تمنعه[25].

ولعل السيناريو المرجح هو هجين بين الثاني والثالث، حيث يتوقع أن تتصاعد انتصارات الجيش السوداني وتضعف الميليشيا المتمردة تتدريجياً، وقتها يتوقع أن تتدخل القوى الإقليمية لإحداث تسوية سياسية بين الأطراف لتضمن وجود حلفائها على الأرض. تقتضي الحكمة السياسية، في حالة حدوث هذا السيناريو، أن يصر القادة السودانيين عسكريين كانوا أم مدنيين على خروج الدعم السريع نهائياً من الحياة السياسية والعسكرية، وأن يفتح الباب في المقابل أمام عودة أحزاب الحرية والتغيير المتحالفة مع الميليشيا للحياة السياسية.