استخبارات المصادر المفتوحة OSINT: يقظةٌ بلا تجسس

الوقت اللازم للقراءة:
13 minsتخيَّل فارساً ينطلق من مكّة إلى طيبة المنوَّرة، لا يعرف للراحة مقاماً ولا للنوم طَعماً، يحمل في يديه رسالة عاجلة من العباس بن عبد المطلب لكنها أشدَّ من السيوف أثراً. يقطع الفيافي ليلاً ونهاراً، حتى إذا انقضى اليوم الثالث كان واقفاً على أبواب المدينة ليُسلِّم الكتاب إلى سيِّد الدولة الوليدة محمد ﷺ.
حملت الرسالة إنذاراً مبكّراً بجيشٍ عرمرم يتحرّك من مكّة صوب المدينة، كاشفةً تفاصيله وخطَّ مسيره[1]. وبفضل هذا الخبر المبكّر تهيّأ المسلمون لملاقاة عدوّهم في غزوة أُحد، فلم يُؤخذوا على حين غرّة ولم تذهب الدولة الوليدة إلى غياهب النسيان.
ذلك المشهد الراسخ في صفحات السيرة النبويّة –على صاحبها أتمّ الصلاة والتسليم– لم يبقَ جامدًا عند حدٍّ واحد، بل تطوّر مع حركة السيرة نفسها، حتى تَنامى في جهازٍ استخباريٍّ منظَّم داخل الدولة النبويّة الوليدة. فصار قادرًا على رصد الخطر من على بُعد مئات، بل آلاف الأميال، بل وعلى اقتناص بذرة الشرّ قبل أن تُثمر، ورصد منابعه قبل أن تفيض.
وعلى الرغم من أنّ كلمة الاستخبارات في أذهان كثير من الناس اليوم ارتبطت بعوالم غامضة من التجسّس المظلم وأفلام الجاسوسيّة، أو بانتهاك الخصوصيات عبر أجهزة التنصّت وأدوات الرقابة. إلا أن هذا المشهد يلخّص جوهر الاستخبارات في الإسلام. ففي الخبرة العملية الإسلامية الأولى كانت الاستخبارات تعني أن يتحصّن المجتمع بالمعرفة الصادقة، لتكون له درعًا واقية تصدّ عنه الأخطار، من غير أن تُنتهك حُرُمات الأبرياء أو تُتجاوز حدود الأخلاق.
أما في عالم اليوم، والذي تعني فيه كلمة (استخبارات) انتهاك كل فضيلة، وفضح كل مستور، فكيف لنا أن نفهم الاستخبارات فهمًا مستقيمًا في ضوء القيم الإسلاميّة؟ وأين يقف الشرع ليضع الحدّ الفاصل بين التجسّس المذموم والتحصّن المشروع؟ بل، وكيف للشابّ المسلم أن يستثمر ما أتيح له في عصر المصادر المفتوحة ليذود عن الحقيقة، ويصون الأمن، من غير أن يتخطّى حدود الشرع أو يخترق القانون؟
في هذه المقالة سنحاول أن نقدّم مدخلًا ميسَّرًا لعالم الاستخبارات في ضوء الرؤية الإسلامية، نشرح فيه معنى الاستخبارات، ونُفرّق بين ما هو مشروع وما هو مُدان شرعًا، ونُبرز مكانة استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT) التي بدأت في التوسع مؤخرًا وبات لا غنى عنها في توثيق الانتهاكات، ومكافحة الشائعات، ودفع الضرر، مع طرح أدوات وإرشادات عملية تُعين القارئ على تحليل المصادر العلنيّة وفهم المعلومات بطريقة منهجية وآمنة.
مدخل إلى عالم الاستخبارات
الاستخباراتُ من الخبر، أي التتبّع الدقيق للأحداث وجمع رواياتها. لكنها في الممارسة العملية الحديثة نظام منظَّم، يلتزم السريّة، غايته جمع المعلومات وتمحيصها وتحليلها، ليقدِّم لصانع القرار رؤيةً أوضح للمشهد. وقد وعَت الأمم منذ أزمنة بعيدة قيمة هذا الأمر؛ إذ كان السعي إلى معرفة أخبار العدو وفهم مقاصده حاضرًا في وجدان الشعوب كلّها، بأساليب خفيّة صار يُطلق عليها فيما بعد فنّ الاستخبارات.
وفي عصرنا الحديث، غدت الاستخبارات ركنًا راسخًا من منظومة أمن الدول، إذ لا حكومة تُهمل صون حماها أو تغفل عما يُحاك ضدّها من دسائس ومؤامرات، ولا تكفّ عن التطلّع إلى إدراك نوايا أعدائها وقدراتهم قبل أن يعلنوا خطواتهم. ولأجل ذلك تُسخِّر الدول ما يتاح لها من أدوات بشرية وتقنية، بدءًا من مراقبة المصادر العلنيّة، وصولًا إلى زرع العيون والجواسيس، لتظفر بالخبر اليقين، وتُعيد صياغته خططًا للمواجهة والاستعداد.[2].
استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)
في العقود الأخيرة برز لونٌ جديد من صنوف العمل الاستخباري، وبات تستخدمه حتى المؤسسات الإعلامية والبحثية البعيدة عن الاستخبارات بمعناها التقليدي لانتشاره بين الناس. وفكرته تقوم على استثمار ما هو مطروح من معلومات في العلن والفضاء العام، دون الارتماء في أحضان الأسرار أو التورّط في أساليب خفيّة محرَّمة.
وقد عُرف هذا النهج باسم استخبارات المصادر المفتوحة، أو اختصاراً OSINT. يقوم هذا المسلك على جمع المعطيات وتحليلها ضمن منهجية دقيقة، انطلاقاً من المنابر العلنيّة كالإعلام، والتقارير، والفضاء الإلكتروني، ومنصّات التواصل، ليستخلص منها ما يصلح أن يكون مادّة نافعة تدعم صانع القرار وتزوده بصفاء الرؤية ووضوح البصيرة[14].
وتتفرّد هذه الاستخبارات بميزة أصيلة، إذ إن مادتها مستمدّة من منابع مشروعة متاحة لكل أحد، يمكن الوصول إليها في إطار القانون[15]؛ فلا تُلصق بها شوائب التجسّس التقليدي، ولا تلوّثها تجاوزاته. ومن هنا أضحتOSINT آلية ذات شأن رفيع، تجاوزت أسوار الأمن القومي لتجد لنفسها مكانًا في الصحافة الاستقصائية، وفي ميادين البحث والتحقيق وغيرها من المجالات[16].
وهذا ما يُجليّ أهمية هذا النوع من الاستخبارات في قدرته على أن تكون شاهد عدل، تُوثّق الانتهاكات وتفضح المستور، وتُقيم الحُجّة على الجناة، دون أن تنزلق إلى مهاوي الخفاء أو تُجاوز سياج القانون. ومن أظهر النماذج المعاصرة ما أنجزه فريق المحققين بالمصادر المفتوحة في المركز السوري للعدالة والمساءلة؛ حيث تكشف تقاريرهم عن جهد مضنٍ في رصد جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري السابق بحق المدنيين. فقد جُمعت أدلّة مرئية دامغة على الغارات المزدوجة، وقنص العابرين عند المعابر، بل وحتى حرق جثث الضحايا[17]. فتحوّلت تلك الشواهد إلى حجج قاطعة لا تُدحض، تُسهم في ملاحقة المرتكبين وفضح ممارساتهم أمام العالم.
ولم يقتصر أثر OSINT على ميادين الحرب والعدالة، بل غدت حصنًا منيعًا أمام سيل الشائعات، وحارسًا أمينًا على صدق الأخبار. فإذا اندسّت صورة مشبوهة، أو شاع خبر مريب، نهض خبير المصادر المفتوحة يتعقّب أصوله، يحدّد زمانه ومكانه، ويميط اللثام عن زيفه إن كان ملفَّقًا أو منزوِعًا من سياقه. وقد أثبتت البحوث أنّ هذا النهج صقل أدوات الصحفيين، فعزّز قدرتهم على التمحيص، ورفع مقدرتهم على استجلاء الحقائق المستورة خلف ستائر التعتيم[18]. وهكذا غدت الشفافية سيفًا ماضيًا يقارع الباطل، ويبطل سحره قبل أن ينفذ، ويدفع الضرر قبل أن يقع..
قواعد وإرشادات للتحليل المفتوح
لا يفتقر هذا الفنّ إلى عُدّةٍ معقّدة بقدر ما يحتاج إلى عقلٍ يقظ، وصبرٍ مُثابر، ودقّةٍ في النظر. وفيما يلي دليلٌ عمليٌّ مُصقولٌ يُعين القارئ على ممارسة التحليل المفتوح بأمانٍ وفاعلية حتى يتفهم عقل المسلم عالم استخبارات اليوم، وإن كان المقروء لا يغني عن الممارسة والتدريب العملي:
- تحقّقْ ثم قارِنْ
قبل تصديق أيِّ خبرٍ أو صورةٍ أو مقطعٍ مرئي، عُد إلى منبعه الأوّل: من نشره؟ أهو حسابٌ مجهول أم جهةٌ ذات سُمعةٍ مهنية؟ راجع تاريخ النشر، ونبرة الحساب، ونمط محتواه: أهو منتِجٌ للأخبار أم مجرّد ناقلٍ لها؟ إنّ هذه الخطوة وحدها كفيلةٌ بإسقاطِ كثيرٍ من الدعاوى الزائفة[19]. ثمّ وازِنها بمصادر موثوقة أخرى؛ فالحقيقة لا تغضب من التثبّت.
- استخدم الأدوات بحِكمة
هيّأت التقنية أدواتٍ مجانية لكشف الزيف: ابحث عكسيًّا عن الصور عبر Google أو TinEye لتتبّع الأصل[20]، واستعن بإضافات التحقق المرئي (مثلInVID لالتقاط الإطارات المفتاحية وفحص المؤشرات التقنية.) فالأداةُ خادمٌ أمينٌ للعقل الناقد، لا بديلًا عنه.
- تمهّلْ ولا تنجرّ
كثيرٌ من الأخبار الصادمة صِيغَت لإيقاظ الغضب ودفع الناس إلى إعادة النشر على عَجَل. قاوم دافع المشاركة، وتذكّر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]. إنّ التريّثَ من العدل، والعدالةُ لا تولدُ من الاستعجال.
- اصنَعْ للخصوصية سياجاً
ليست الإتاحةُ العامّةُ إذناً مفتوحاً للنشر بلا ضابط. تجنّب كشف التفاصيل الشخصية التي لا تخدمُ مصلحةً عامةً ولا تدفعُ ضرراً. يُحبُّ الإسلامُ السِّتر، ويحرّمُ التشهير؛ فلا تُنزَع الأستارُ إلا لضرورةٍ راجحةٍ تمنعُ ظلماً أو فسادًا.
- احمِ نفسكَ والناسَ معك
إن وقفتَ على معلوماتٍ حسّاسة تتعلّق بجهاتٍ نافذة أو وقائع خطرة، فاستشرْ أهل الخبرة قبل نشرها، ووازنْ بين المنفعة والمفسدة. احمِ هويّتك الرقمية، وافصلْ بيئةَ العمل عن حساباتك الشخصية، ولا تُفصح عن بياناتك إلا بقدر الحاجة. المعيار: الشفافية المنضبِطة.
دليلٌ عمليٌّ مُبسَّط
وكيلا يبقى الحديثُ نظريّاً فهذا مسارٌ سريعٌ، آمنٌ للقارئ العام، يُمكّنه من التحقّق المسؤول دون خرقٍ شرعيٍّ أو قانوني.
- بروتوكول سريع (نحو عشر دقائق)
- استقبِلْ وثبِّتْ: احفظ الرابط ولقطة الشاشة، ودَوِّن التاريخ والمرسِل ومضمون الادّعاء. لا تُعِد النشر.

- مصدر/زمان/مكان: مَن نشر؟ متى التُقط؟ أين التُقط؟ التقط القرائن: طقس، معالم، لافتات، تضاريس.

- ابحث عن سوابق: نفِّذ بحثاً عكسيّاً للصورة أو لإطارات الفيديو المفتاحية؛ عن طريق مثلا GOOGLE LENS إن ظهرت نسخ أقدم أو سياقات مغايرة فثمّة إنذارٌ قوي

- قارِنْ القرائن: هل تنسجم الملابس، والظلال، واللوحات المرورية، وأنماط البناء مع البلد/المدينة المدّعاة؟
- احكُم بدرجة ثقة: عالٍ/متوسط/منخفض، واذكر سبب الحكم.
- انشُر بمسؤولية: إن ضَعُفت الثقة فامتنعْ أو انشرْ بتحذيرٍ واضحٍ يبيّن مستوى اليقين.
- صندوق أدوات آمن (مفتوح المصدر/مجاني)
- أرشفة وحفظ: لقطات شاشة، حفظ صفحات كـ PDF، وخدمات أرشفة عامة.
- بحث عكسي للصور: محرّكات البحث الشائعة وأرشيفات الصور.
- تفكيك الفيديو: استخراج الإطارات المفتاحية بإضافات المتصفّح أو أدواتٍ خفيفة.
- خرائط وصور جوية: خرائط تجارية ومفتوحة، صور أقمار صناعية، و«عرض الشوارع (Street View) حيث يتوفّر.

- طقس وزمن: قواعد الطقس التاريخي وساعات الشروق والغروب.
- نقلٌ علني: تتبّع الطيران المدني (ADS-B) والملاحة البحرية (AIS) لقرائن سياقية عامة.
- ملفات ووثائق: عارض بيانات ملف/ميتا، وقارئ PDF يُظهر الطبقات.
- قاعدة المنهج: الأداةُ دليل، والحاكمُ هو الطريقة.
- افعل / لا تفعل
افعل: وثّق كل خطوةٍ (تاريخ/أداة/نتيجة/لقطة)، واحتفِظ بالأصل غير المضغوط، واعملْ من ملفّ متصفّحٍ معزول، واطمسْ الوجوه واللوحات ما لم تستدعِ المصلحةُ العامة خلافَ ذلك.
- لا تفعل: لا تُجرِّب اختراقًا، ولا تلتفَّ على سياسات المنصّات، ولا تنشر بياناتٍ شخصية بلا ضرورة، ولا تُعلن يقينًا من لقطاتٍ هزيلةٍ أو قرائنَ مفردة، ولا تُنشئ حساباتٍ وهميةً للتلاعب.
- قاعدة الثقة: النزاهة ليست ترفًا؛ إنّها شرطُ التصديق.
قالب نتيجةٍ موجز (للجمهور)
بعد ذلك اخرج هذه البيانات للجمهور المعني بالشكل الآتي.
- الادّعاء: صِغْه بشكل واضح مفهوم
- النتيجة: صحيح/مضلّل/غير مثبت –درجة الثقة-: عالي منخفض وضعيف ع/م/ض.
- لماذا؟ ثلاث قرائن موجزة (مكان/زمان/مصدر).
- ما الذي لا نعرفه بعد؟ …
- نصيحتنا للقارئ:
- قاعدة الخلاصة: وضوحُ النتيجة يحفظُ حقَّ القارئ.
لا تنس التقنية في أعمالك
مسارُ عملٍ منهجي (للمبتدئ):
- جمعٌ منظّم: مجلدٌ مؤرَّخ (YYYY-MM-DD) واسم الحالة. أسماءُ ملفات معيارية:
- أرشِفْ قبل الاختفاء: نزّل الأصل، وصوِّر الشاشة، واحفظ نسخة ويب مؤرشفة حيث يُسمَح.
- تحليلُ وسائط:
- صور: بحث عكسي ثم تمحيص تفاصيل دقيقة (بلاطات، شرفات، أعمدة إنارة…).
- فيديو: استخرج إطارات مفتاحية وطبِّق عليها البحث العكسي، وراقب تغيّر الظلال والأصوات والقطع.
- جغرفة(Geolocation): ابدأ بالثوابت: معالم كبيرة، تضاريس، نوع الطريق، لغة اللافتات، طُرز المركبات. قارِنْ بخرائط متعددة وصور أقمار صناعية، وارسم «خريطة قرائن» (اتجاه الظل/الريح، شكل التقاطع…).

- زمنية(Chronolocation): طولُ الظلّ واتجاهه مع موضع الشمس يمنحان نافذةً زمنية؛ يؤازِرها الطقس التاريخي والمواسم.

- أشخاصٌ وخصوصية: لا تُطابِق وجوهاً ولا تتّبع أفراداً؛ واطمسْ ما يلزم إن لم تكن هناك مصلحةٌ عامةٌ واضحة.

- إخراجٌ منضبط: لَخِّص الادّعاء، واذكر المنهج، واعرض القرائن المصوَّرة، واختم بدرجة الثقة وتحفّظاتٍ لازمة.
مثالٌ مصغّر (خطواتٌ تطبيقية): ادّعاءُ «قصفٍ وقع اليوم بمدينةٍ بعينها»: ثبِّت الرابط واللقطات، استخرج ثلاثًا إلى خمس إطاراتٍ واضحة، نفِّذ بحثاً عكسيًاً، طابِقْ المئذنة/السياج/التقاطع مع الخرائط، قارِنْ الظلال بوقت الادّعاء وراجع طقس اليوم، ثم اكتب الخلاصة ودرجة الثقة وأرفِق المقارنات.
مقياسُ ثقةٍ بسيط (شبكة ٢×٢): محور «موثوقية المصدر» (عالٍ/منخفض) × «قابلية التصديق» (عالية/منخفضة) بالقرائن. مثال الصياغة: «الادّعاء قابل للتصديق بدرجةٍ متوسطة: المصدر متوسط الموثوقية، والدلائل البصرية (شكل الطريق واللافتات) تتّسق مع المدينة المزعومة، لكن لا دليلًا قاطعًا على التاريخ.»
سلامةُ الباحث والمادّة: اعزلْ بيئةَ العمل، وتجنّب فتح مرفقاتٍ مشبوهة، وراجِع الوسائط قبل المشاركة خشيةَ تسريب موقعٍ أو وجوهٍ واضحة، واذكرْ دائمًا التصريح الأخلاقي: هذا عملٌ تعليميٌّ توعويّ، وأيُّ إساءةِ استخدامٍ مرفوضةٌ شرعًا وقانونًا.
التجسس المحرَّم والتحصُّن المشروع
لقد قرر الفقهاء قاعدة جليّة: “لا يجوز التجسّس إلا لدفع منكر عند ظهور ريبة”[4]، أي أن التحريم أصل لا يُستثنى منه إلا ما كان ضرورةً لمنع جريمة أو دفع ضرر محقق عند قيام بيّنات واضحة.
لكن في المقابل، شجّع الإسلام على اليقظة والأخذ بأسباب الحيطة لحماية المجتمع من الأخطار. فإذا وُجدت ريبة معتبرة في أمرٍ ما، فإن التحرّي المشروع بقصد منع المنكر أو ردّ العدوان لا يُعدّ من التجسس المذموم، بل قد يرتقي إلى الوجوب(5). وقد كانت سيرة سيدنا محمّد ﷺ تجسيدًا عمليًّا للتوازن الدقيق بين المبدأ الأخلاقيّ واليقظة الأمنيّة.
فمنذ بواكير الدعوة في مكّة، كتم ﷺ أسرار أصحابه عن بطش قريش، فظلّت الدعوة سرّية ثلاث سنوات، واتّخذ دار الأرقم مقرًّا خفيًّا يجتمع فيه المؤمنون بعيدًا عن أعين المتربّصين[8]. وكذلك حين بايعه وفد الأنصار في ليلة العقبة قبل الهجرة، جرت البيعة في سرّ وكتمان، لتُصان الخطة من الفشل[9]. ولمّا أذن الله بالهجرة، نُفّذت العملية في غاية الإحكام؛ خرج ﷺ في توقيت مدروس، متخفّيًا عن الأنظار، وسلك دروبًا غير معهودة بصحبة دليلٍ خبير، حتى ضلّ أثره عن مطاردة قريش[10].
وبعد أن قامت الدولة في المدينة، وضع النبي ﷺ أسس منظومة استخبارية لحماية المجتمع الناشئ. فوّض بعض أصحابه ليكونوا «عيونًا» ينقلون إليه الأخبار الحسّاسة؛ فكان له عين في مكّة (عمّه العباس بن عبد المطلب)، وآخرون بين قبائل العرب[11].
كما اعتمد ﷺ على الاستطلاع العسكري قبيل المعارك لجمع المعلومات عن تحرّكات العدو وخططه؛ فقبل بدر أرسل سريّات تستطلع أمر قافلة قريش وجيشها[12]، فمكنه ذلك من اختيار الموضع الأوفق، وترتيب صفوف المسلمين بما يسبق عدوّه خطوة حاسمة[13].
وهكذا، يتّضح أن جمع المعلومات الدقيقة وحسن توظيفها كان عنصرًا فارقًا في انتصارات المسلمين، دون أن ينفصل عن رعاية القيم النبيلة، ولا أن يتحوّل إلى أداةٍ للتعدّي أو الظلم. لقد جمع ﷺ بين نور الأخلاق وحكمة التدبير، فصار هاديًا للأمة في كيفيّة صون الحقائق وتوظيفها في خدمة العدل والحق.
وخلاصة الأمر أنّ الإسلام أقام ميزاناً دقيقاً يوازن بين صيانة الحقوق الفردية وحماية جماعة المسلمين: فالتجسّس على الأبرياء لجمع الفضائح حرام، أما التحرّي عن المخاطر المحققة وتعقّب المجرمين لردع ظلمهم فهو واجب من واجبات الحماية، ما دام منضبطًا بالشرع، بعيدًا عن التعدي والتعسف.
[1] الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو – بوابة السيرة النبوية
[3] [4] لا يجوز التجسس إلا لدفع منكر عند ظهور ريبة
[5] [6] حكم العمل في المباحث العامة للدولة – موقع الشيخ ابن باز
[2] [7] [8] [9] [10] [11] [12] [13] الاستخبارات العسكرية في غزوات النبي ﷺ (1) | مجلة المجتمع
[14] [15] [16] استخبارات المصادر المفتوحة – ويكيبيديا
[17] [19] [20] Inside SJAC’s Open-Source Investigative Team
[18] Open-Source Intelligence: Initiating Efficient Investigations – Perspectives from Syrian Journalists. – المركز السوري للإعلام وحرية التعبير Syrian Center for Media and Freedom of Expression Studies
دراسة المركز السوري للإعلام (SCM): Perspectives from Syrian Journalists on OSINT.
الرحيق المختوم – بوابة السيرة النبوية: فصل الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو.
المركز السوري للعدالة والمساءلة (SJAC): Inside SJAC’s Open-Source Investigative Team.
بوابة السيرة النبوية: فصل الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو.
د. أشرف عيد، الاستخبارات العسكرية في غزوات النبي ﷺ – مجلة المجتمع الكويتية.
