معيارنا لا مرايا الغالب

آخر تحديث: 12 أكتوبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

6 mins

هل يمكن لأي مشروعٍ سياسي أن يزدهر من غير أساس فكري وقيمي راسخ؟ وهل تكفي براعة إدارة اللحظة واحتواء الضغوط، أم أن ما يُنتظر ممّن يتصدّر أعظم من ذلك: غرس بذور نهضة تستمد روحها من مرجعية إسلامية تجعل الغاية معيار الوسيلة، والوسيلة خادمة للغاية؟

هذا السؤال عتبةٌ نميّز به بين سلطة تجيد تسكين الأزمات وتقنين الإجراءات، وبين سياسةٍ تملكُ معنىً تُحاكِمُ بهِ نفسَها علناً. فماذا يبقى منا لو أهملنا صياغة معاييرنا بأنفسنا؟

ميزانُ الغالب حين يُستعار

حين لا نصوغ هذا الميزان بأنفسنا، يتسلّل ميزان الغالب  ليغدو المقياس الذي نُحاكَم به، من غير تمحيصٍ ولا نظر في مدى ملاءمته لغاياتنا. تبدو خطط “التحديث” متينة في الشكل، لكنها تفقد الروح: تعليمٌ يُراكم المهارات من دون مقصد محمود، وإدارةٌ تُتقن النماذج وتنسى الغاية، واقتصادٌ يتسع بلا قيمٍ تُرشِده.. 

المشكلة ليست في “الآخر” هوية أو حضارة، بل في تحويل أدواته إلى مرجع كوني يُعفي من سؤال المقصد: لماذا نفعل ما نفعل؟ ولمن؟ وبأي كلفة على الإنسان والمجتمع؟ لذلك لا نحتاج رفض الأدوات، بل إعادة توجيهها تحت ميزان نابع من داخلنا. بهذا نغلق الباب أمام “أكواخ الهيمنة” التي تسجن الخيال السياسي داخل قوالب جاهزة.

ولعل قائلاً يقول أن ليس منا أحدٌ لا يجيد تسطير المثاليات ونحت الصور الوردية، أما النادر هو أن تجد من يعمل بما لديه من أدوات وينطلق من واقعه لا من أحلامه. هذا الكلام فيه حكمة، وإن كان يخفي اتخاذ موقف التبرير قبل العمل. ولكن إثباتاً أنّ البديل ممكنٌ وغيرُ نظري، يكفي أن نطلّ على أول بناء مؤسّسي في تاريخ الأمة..

عُمَر: قيمة تولِّد دولة

يقدّم عهدُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاهداً واضحاً على إمكان الجمع بين أصالة الميزان ومرونة البناء. لم تكن القيم شعارات تُرفع فوق الواقع، بل مبادئ تُترجم إلى جهاز عام: تنظيمُ الموارد عبر الديوان والخراج لضبط الإيراد والإنفاق (الماوردي، ص. 259)، وترسيخُ القضاء سلطةً فاصلةً تُعلن أحكامها وتردّ المظالم (الأغبش، ص. 185)، واعتمادُ التأريخ بالهجرة إطاراً زمانياً يوحّد المعاملات (ابن حجر العسقلاني، ص. 314). منطق الحُجّة هنا بسيط ومتين: حين تحضر مرجعية واضحة، لا تصبح الأداة شريكاً ينازع الغاية بل خادماً لها؛ وحين تغيب، تتورّم الأدوات ويَضمر المقصد. 

هذا المنهج لا يستدعي تمجيد الماضي بل استلهام قاعدته: قيمةٌ تُبنى، ثم تُقاس، ثم تُصان بالمراجعة.  هذا التحوّل لم يهبط من فراغ؛ خلفه مرجعيةٌ صاغت العقل والغاية معاً.

«اقرأ» تؤسّس ميزان السياسة

المرجعية الإسلامية في هذا التصوّر ليست لافتة عاطفية، بل إطار تفكير عملي يحدد النجاح بمعايير قابلة للفحص. 

افتتاح الوحي بـ﴿اقرأ﴾ يجعل من المعرفة شرطاً للتحرّر وبدايةِ العمران، والأمرُ بالعدل يضع سقفاً ملزماً للسلطة قبل خصومها، وتكريم الإنسان يجعل الكرامة حجر الزاوية لأي سياسة. 

ومن السنة أيضاً قاعدةٌ تؤكّد المساءلة والالتزام بالمسؤولية: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (البخاري 5188)، فتصير الشفافية ومؤسسات الرقابة ليستا فخراً إدارياً، بل ضامِنَ شرعيةِ القرار. 

من هذه الثلاثية، المعرفة والعدل وتكريم الإنسان، يتشكّل ميزانٌ عملي نُحيل إليه كلما تعقَّد الواقع: ما الذي يرفع منسوب العدل؟ ما الذي يصون الكرامة؟ وما الذي يُنجَز بكفاءة تُرى وتُقاس؟ وحين تُدرَج هذه الأسئلة في هندسة القرار العام، ننتقل فعلاً من جدل الْهُوِيَّة إلى هندسة الأثر.

الربيع العربي: حرارةٌ بلا بوصلة

تظهر الحاجة إلى هذا الميزان بجلاء في التحوّلات الحديثة؛ موجات الربيع العربي فتحت باباً واسعاً للمساءلة، غير أنّ السلطات الناشئة انشغلت بإدارة الواقع وإطفاء الأزمات وتكديس «حلول تقنية»، بدل أن تطلق رؤية شاملة مؤطَّرة بمنظومة فكرية تستند إلى مرجعيتنا وتُرتّب الأولويات وتحدّد المسارات. 

إدارة الواقع ليست خطأ؛ هي مسار مهم داخل الرؤية، لكنها تفقد معناها حين تصبح المبتدأ والمنتهى. عندئذ ترتفع الكلفة وتتآكل أسباب البقاء مهما حَسُنَت الأدوات،وتبلغ هذه الفاتورة ذروتها في الحالة السورية بوصفها امتحاناً للجدّية لا لِلشعار.

سؤالُ وجود وجدولُ عمل

تُجسّد الحالةُ السورية ذروةً سَنَعيشُها؛ فالمشهد هنا لم يكن انفجار غضبٍ عابر، بل لحظة وعي جَمْعِيٍّ طرحت سؤال الْهُوِيَّة والوجهة معاً: من نحن؟ وما نريد أن نكون عليه؟

بهذا المعنى تجاوزت سورية حدود الجغرافيا، وصارت مختبراً يقيس جدّية أي خطاب: ماذا يبقى حين يُطلَب تحويل الشعار إلى إجراءات قابلة للقياس؟ وفق الميزان العملي المتقدّم، تُرتّب الأولويات بطريقة تُظهر الصلة بين القيمة والمؤسسة. 

فاستعادة الثقة تمرّ عبر استقلال وظيفيٍّ للقضاء تُعلَنُ فيه آليات التعيين والترقية وتُنشر الأحكام ضمن آجال محددة، وحماية المال العام تتجسّد في مالية شفافة تُدار عبر آلية معلومة، تُنشر عقود الشراء وتقارير التدقيق ليعرف الناس أين تذهب الليرة ولماذا، والحيوية الاجتماعية تُستعاد ببرامج تعليم مُنقِذ تعوّض الفاقد، وبفرصِ عمل قريبة تُعيد دورة الحياة إلى المدن والبلدات المتضرّرة. 

بمعنى أوضح: حين نقول «العدل»، لا نعِظ؛ نطالب بسلاسل قرار واضحة ومسؤوليات محددة ومؤشّرات علنية. وحين نقول «الكرامة»، لا نكتفي ببلاغة أخلاقية؛ نُنشئ آليات شكوى وتعويض تمنع تكرار الانتهاك وتُعلن نتائجها دورياً. وحين نقول «الكفاءة»، لا نرفع شعاراً إدارياً؛ نربط الإنفاق بالأثر، ونقيس جودة الخدمة بما يصل إلى الناس لا بما يُكتب في التقارير. 

هنا يلتقي الأصل الشرعي مع أفضل ما في تقاليد الإدارة الحديثة: شفافية، ومساءلة، وتعلّم مستمر. الفارق أنّ ميزان الاختيار ليس ما هو رائجٌ عالمياً بل ما يخدم غرضنا ويحفظ إنساننا.

رؤية تُقاس لا تُنشَد

هذا الربط بين الرؤية والقياس يُنقذنا من ثنائية زائفة طالما أرهقت النقاش: «هُويَّة أم أدوات؟». الْهُوِيَّة تُحدّد الغاية ومبادئ الاختيار، والأدوات تُختبر بقدر ما تُحقق تلك الغاية.

ومن باب الاتّساق، لا بدّ أن يلتزم صانع القرار بإعلان معاييره قبل التنفيذ، ثم نشر النتائج بعده، لكي لا يتحول الحديث عن «المرجعية» إلى خطاب لا يطال المؤسّسة. بهذا يصبح الفارق بين مشروع يدار على وقع الطوارئ ومشروع يَصنع التاريخ واضحاً في عين الإنسان لا في ذاكرة الخُطَب.

الانتقال بين هذه المستويات يحتاج لغة سياسية تتجنّب التشنّج وتحتفي بالنقد المنهجي؛ النقد ليس خصومة بل وظيفة تصحيح دائمة تحمي المشروع من عبء اليقين الزائف.

لذلك، مؤسسات الرقابة المستقلة، وحقُّ الوصول إلى المعلومات، ومنابر النقاش العام لا تُؤجّل إلى ما بعد «الاستقرار»، بل جزء أصيل من صناعة الاستقرار، إذ كلما انكشف القرار للمحاسبة، زادت شرعيته، وكلما اختبأ وراء الطوارئ ذابت شرعيته مهما علت الشعارات.

سردية متصلة

يرتبط بذلك واجب معرفي بقدر ما هو سياسي: بناء سردية تربط الماضي بالحاضر دون تقديس ولا قطيعة. نحن لا نعيد إنتاج التجربة الأولى كما هي، ولا نسلّم لهيمنة معيار وافد كما هو، بل نمارس الاجتهاد في الوسائل تحت سقف قيمي واضح.

هذه «المفارقة المعيارية» كانت سر قوة الإسلام تاريخياً: إذ لم يُساير واقعه ليحصل على القبول، بل قدّم بديلاً أخلاقياً وتشريعياً صنع واقعاً جديداً. ووظيفتنا اليوم أن نعيد تشغيل هذا المنطق بلغة العصر ومؤسساته.

نعم يمكن !

تزدهر السياسة حين تُصاغ من داخل مرجعية فكرية وأخلاقية وشرعية تحدّد الغاية ثم تهندس الأدوات، وتنهزم حين تستبدل الرؤية بإدارة اليوميات. 

المعيار الذي نطالب به ليس اختبار ولاء لفظي للهوية، بل معيار قياس علني تُترجمه مؤسسات قابلة للمساءلة: قضاء معلن الأحكام، ومال عام مكشوف الحركة، وخدمات تُقاس نتائجها.

عندها، تنهار «أكواخ الهيمنة» التي أسرتنا لعقود، وتبدأ صفحة جديدة من التاريخ تُكتب بواقعية تحفظ الجوهر وتُحسِن الاجتهاد في الوسيلة.

وبهذا يصبح لسؤال المقدمة جواباً عملياً: نعم، يمكن للسياسة أن تصنع التاريخ شريطة أن نمتلك ميزاننا ونقيّم به أنفسنا لا بمقاييس الآخرين.