المغيبون المنسيون: السوريون في السجون الإسرائيلية

الوقت اللازم للقراءة:
8 minsلم يكد السوريون يلتقطون أنفاسهم بعد إسدال الستار عن مسالخ النظام وسجونه، حتى وجدوا أنفسهم أمام مأساة جديدة لا تقل قسوة. “لم نهنأ بالحرية، من صيدنايا إلى سجون الاحتلال! أي ظلم هذا؟ زوجي مزارع فقط ولا يعمل لصالح أي جهة كما ادعوا”، تقول زوجة أحد المعتقلين من ريف القنيطرة، وقد حمل صوتها ارتجاف الخيبة أكثر من أي بيان.
ليس بعيداً عن قصتها، يقف الفتى صدام أحمد، ابن السادسة عشرة من قرية جباتا الخشب بريف القنيطرة الشمالي، شاهداً على قسوة المشهد. فقد اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في نيسان 2024 بينما كان يرعى الأغنام قرب خط فض الاشتباك، رغم حيازته وثيقة راعٍ رسمية من قوات الأمم المتحدة (UNDOF)، ولا يزال حتى اليوم خلف قضبان الاحتلال.
وما قد لا يعلمه كثيرون أن هناك ما لا يقلّ عن اثنين وثلاثين معتقلاً سورياً يواجهون مصيراً غامضاً في السجون الإسرائيلية، ضائعين بين تصنيفات قانونية مشبوهة وصمت إعلامي مطبق. إذ إنه قبل سقوط النظام، ومع ما تلا السابع من أكتوبر، تغيّرت المقاربة الأمنية الإسرائيلية على الجبهة السورية، وبدأت حملات اعتقال عشوائية طالت عشرات الشبان على طول خط فض الاشتباك، غالباً ما كانت تنتهي بإفراج سريع هدفه وحيد: منع الناس من الاقتراب من الأسلاك الشائكة.
لكن مع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، لم تُطوَ صفحة الاعتقال. بل فُتحت مأساة جديدة في الجنوب السوري، حيث استغلت قوات الاحتلال الفراغ الأمني والفوضى المرافقة للمرحلة الانتقالية، لتبدأ جولة جديدة من الاعتقالات المنهجية في القنيطرة ودرعا، تاركةً أسئلة ثقيلة معلّقة: من هم هؤلاء المعتقلون الجدد؟ وما هو مصيرهم المجهول؟
اعتقالات بالجملة
بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، وتحديداً في 20 ديسمبر من السنة نفسها، بدأت أولى عمليات الاعتقال، حيث داهمت فجراً قوة عسكرية منزلاً في بلدة جبا بريف القنيطرة الأوسط واعتقلت صاحبه وشخصاً آخر من منزله في قرية الصمدانية الغربية بتهمة الانتماء لحزب الله.
تلت تلك الحادثة عدة اعتقالات مؤقتة يُفرج عن الأشخاص بعدها بساعات أو أيام قليلة.
إلا أنه بتاريخ 28 أبريل 2025 توغلت قوات الاحتلال في قرية الدواية بريف القنيطرة الجنوبي، وأقدمت على اقتحام منزل القيادي السابق في غرفة عمليات الجنوب محمد الكريان، وقامت بضربه واقتادته إلى الداخل المحتل بعد إخبار ذويه أنه لن يتم الإفراج عنه. وبعد قرابة الخمسة أشهر من اعتقاله ادعى جيش الاحتلال ببيان رسمي بتاريخ 11 سبتمبر 2025 أن المعتقل محمد الكريان هو عنصر ميداني تابع للوحدة 840 – وحدة العمليات الخاصة التابعة لفيلق القدس- وتم توجيه ذات الاتهام إلى زيدان الطويل المنحدر من قرية حضر ذات الغالبية الدرزية.
شهد شهر يونيو من العام 2025 تصعيداً في المداهمات مع وجود فجوة كبيرة بين روايات جيش الاحتلال وشهادات المصادر المحلية.
فجر 12 يونيو 2025، شنت قوات الاحتلال حملة مداهمات واعتقالات واسعة في بلدة بيت جن الواقعة بريف دمشق الغربي. لم تقتصر العملية على الاعتقالات، بل شهدت جريمة قتل بدم بارد، حيث أطلق جنود الاحتلال النار على شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة خرج مذعوراً أمامهم بسبب الاقتحام المفاجئ، وتركوه ينزف أمام المنزل حتى فارق الحياة.
أسفرت الحملة الأمنية عن اعتقال سبعة شبان، تربطهم جميعاً صلة قرابة، حيث داهمت القوات الإسرائيلية منازلهم واقتادتهم إلى الأراضي المحتلة.
أصدرت قوات الاحتلال بياناً رسمياً تزعم فيه أن المعتقلين السبعة ينتمون إلى حركة حماس وكانوا “يحاولون الترويج لمخططات” ضد الكيان المحتل. لكن هذه الرواية كذبتها شهادات أهالي القرية وأقارب المعتقلين، حيث أكدت مصادر محلية أن جميع الشبان يعملون في الزراعة ورعي المواشي، وأن اثنين منهم عادا مؤخراً من رحلة نزوح في لبنان. وفي شهادة مباشرة، نفت السيدة صفاء السعدي الرواية الإسرائيلية جملة وتفصيلاً.
قالت السيدة السعدي وهي قريبة أحد المعتقلين: “لا ينتمي أيٌ من الشبان إلى جهة عسكرية ولم يكونوا يخططون لشيء سوى العيش بأمان وسلام مع عائلاتهم. إن عملية الاعتقال كانت بسبب تقارير كيدية من عملاء إسرائيل في المنطقة ولا أساس لها من الصحة”.
وفي 29 يونيو 2025، توغلت قوات الاحتلال فجراً في قرية طرنجة بريف القنيطرة الشمالي، وأقدمت على اعتقال ثلاثة شبان، مدعية كعادتها أنهم “من المشتبه فيهم القيام بنشاطات إرهابية”، وتم نقلهم إلى الأراضي المحتلة لاستكمال التحقيق، وهي رواية سرعان ما نفتها المصادر المحلية.
وبعد هذه العملية بساعات قليلة في قرية معرية بحوض اليرموك (ريف درعا الغربي)، أُصيب شابان من قرية صيصون بنيران قوات الاحتلال أثناء مرورهما بالقرب من “ثكنة الجزيرة”، وهي نقطة عسكرية احتلتها إسرائيل بعد سقوط النظام، قبل أن يتم اعتقالهما وهما جريحان.
وبعد يومين فقط، فجر 2 يوليو 2025، شنت قوات الاحتلال عملية أخرى في الريف الجنوبي للقنيطرة، وتحديداً في قريتي البصالي وأم اللوقس، حيث اعتقلت ثلاثة شبان آخرين متهمةً إياهم بأنهم “خلية إيرانية”. لكن لم تمضِ إلا ساعات قليلة حتى أفرجت عنهم، وهو ما يثبت زيف هذه الادعاءات، وأن عمليات الاحتلال غالباً ما تكون بناءً على معلومات كيدية من عملائه على الأرض.
لم يمضِ أسبوع واحد على العملية السابقة، حتى نفذ جيش الاحتلال مداهمة جديدة واسعة النطاق بتاريخ 7 يوليو في ريف القنيطرة الجنوبي أيضاً. خلال هذه الحملة اقتحمت القوات الإسرائيلية قرية الدواية الكبيرة واعتقلت أخوين اثنين.
ثم داهمت قرية عين الزيتون القريبة، واعتقلت طفلاً لم يتجاوز عمره 17 عاماً، ويذكر أنّ عم هذا الطفل معتقل في سجون الاحتلال منذ شهر نيسان. كما اقتحمت قرية سويسة واعتقلت ثلاثة شبان، وكذلك قرية عين زيوان حيث اعتقلت شابين، أفرجت عن واحد منهما فيما لا يزال الآخر معتقلاً حتى هذه اللحظة.
رافقت هذه العملية الواسعة إطلاق كثيف للرصاص في الهواء، وتوجيه إهانات للأهالي، وترويع متعمد للأطفال والنساء.
زعم جيش الاحتلال في بيان له أنه في هذه العملية اعتقل “خلية تم تشغيلها من قبل فيلق القدس الإيراني”. وكما في المرات السابقة، قوبلت هذه التهمة في الوسط المحلي بالرفض التام، باعتبارها لا تمت للواقع بصلة.
واللافت في هذه العملية هو قصة أحد المعتقلين، الذي كان معتقلاً سابقاً في سجن صيدنايا وأُفرج عنه في الثامن من ديسمبر بعد سقوط النظام. وفي شهادة تلخص حجم المأساة، تقول زوجته: “لم نهنأ بالحرية، من صيدنايا إلى سجون الاحتلال! أي ظلم هذا؟ زوجي مزارع فقط ولا يعمل لصالح أي جهة كما ادعوا”.
هدأت وتيرة الاعتقالات لمدة ثلاثة أسابيع، وفي 29 يوليو 2025 سُجلت حادثة اعتقال ضمن نمط الاعتقالات الصامتة، حيث توغلت دورية إسرائيلية في قرية الصمدانية الشرقية بريف القنيطرة، واعتقلت شاباً من أمام منزله دون إصدار أي بيان أو توضيح لأسباب الاعتقال.
وفي غياب أي رواية رسمية، لم يخرج سوى صوت عائلته التي أفادت بأنه مدني يعمل سائقاً على سيارة تابعة لمصنع ألبان وأجبان، وأن عمله الوحيد هو نقل البضائع يومياً إلى دمشق، ولا علاقة له بأي نشاط آخر.
أما آخر عمليات الاعتقال المسجلة في القنيطرة فوقعت ليل 11 أغسطس، حيث داهمت قوة إسرائيلية حياً في قرية طرنجة بحثاً عن مطلوبين اثنين، واعتقلت أحدهما بينما لم تجد الآخر. اللافت في هذه الحادثة كان التغيير في ادعاء جيش الاحتلال، الذي اتهم المعتقل في بيان له بأنه “تاجر أسلحة”، في ابتعاد عن تهم الإرهاب والتبعية لإيران المعتادة.
وتلا ذلك بيوم واحد، في 12 أغسطس، اعتقال شابين من قرية العارضة بريف درعا الغربي، لكن هذه المرة، لم يصدر أي بيان أو توضيح من جيش الاحتلال.
ثقب أسود قانوني
يواجه اثنان وثلاثون معتقلاً سورياً في السجون الإسرائيلية مصيراً محاطاً بالغموض المطلق، وظروف اعتقالهم تقع في منطقة رمادية قانونياً وإنسانياً. السمة الأبرز لوضعهم هي حالة التحقيق المفتوح التي لا تنتهي.
هذا الغموض هو نتيجة مباشرة للوضع القانوني المعقد الذي يُحتجزون فيه. فجميعهم لا يتم تصنيفهم كأسرى حرب يخضعون لاتفاقيات جنيف، ولا كسجناء جنائيين لهم حقوق واضحة في المحاكمة.
بدلاً من ذلك، تقوم سلطات الاحتلال بتصنيفهم تحت قانون “المقاتلين غير الشرعيين” الإسرائيلي. هذا التصنيف يحرم المعتقل من حقوق أسرى الحرب ومن ضمانات المحاكمة العادلة للمدنيين. وبحسب المعلومات المتوفرة، يُعرض المعتقلون كل ستة أشهر أمام محكمة عبر الفيديو، في إجراء شكلي يتم من خلاله تجديد اعتقالهم تلقائياً لمدة ستة شهور إضافية، دون وجود أي مرافعة حقيقية أو إمكانية للطعن أو الحق في محاكمة عادلة، وكل ذلك بناءً على ملف سري لا يُسمح حتى لمحاميهم بالاطلاع عليه.
أما عن أماكن اعتقالهم، فهم موزعون في السجون الإسرائيلية، وتشير المعلومات المتوفرة إلى وجود البعض منهم في سجن مجدو وسجن عوفر.
غياب المطالبة الحكومية
في مواجهة هذه الأزمة، تبدو الجهود المبذولة على كافة الأصعدة خجولة وغير متناسبة مع حجم المأساة.
على المستوى الحكومي، أوضح مسؤول العلاقات الإعلامية في محافظة القنيطرة أن الحكومة السورية، خلال اجتماعات متعددة مع قيادة القوات الأممية، جددت مطالبتها بتفعيل الدور الرقابي الكامل لقوات فض الاشتباك بموجب اتفاقية عام 1974. وأضاف على الرغم من الصعوبات السياسية ومحاولات إعادة تفعيل اتفاقية الهدنة، فإن الجهات المختصة تدرس الخيارات القانونية المتاحة لرفع دعاوى ضد الانتهاكات الإسرائيلية أمام كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
على مستوى التوثيق والمساعدة القانونية، تقتصر جهود التوثيق على محاولات فردية ومحدودة من قبل بعض النشطاء المحليين. وعلى الصعيد القانوني، حاول بعض الأهالي والناشطين المحليين التواصل مع محامين في الأراضي المحتلة، مثل المحامي خالد محاجنة، أو مع منظمات حقوقية في محاولة لمعرفة أية معلومة عن أبنائهم. أيضاً هناك محاولات خجولة من قبل حقوقيين سوريين في أوروبا لإثارة القضية، لكن جهودهم تصطدم بغياب الدعم والبيانات الدقيقة من الداخل.
أما على المستوى الإعلامي، فيعاني هذا الملف من تعتيم شبه كامل، فهو مغيب تماماً عن الأجندة الإعلامية الرسمية وغيرها، إلا في بعض الحالات التي عرضت كخبر عادي مر مرور الكرام. حتى على مستوى النشطاء المشهورين على وسائل التواصل الاجتماعي، فلا يكاد أحد منهم يستذكر المعتقلين بكلمة.
وعلى مستوى المنظمات الدولية، لم يكن للأهالي وجهة للسؤال عن أبنائهم سوى القوات الأممية المتواجدة في المنطقة، والتي اقتصر دورها على نقل الشكاوى دون أي قدرة على الضغط أو التحقيق. وهذا ما أكده الدكتور عرسان عرسان، ممثل أهالي القنيطرة لدى الأمم المتحدة؛ إذ إن الآلية المتبعة عقيمة، حيث يقوم الأهالي بتقديم شكاوى للأمم المتحدة، التي ترفعها بدورها للقوات الإسرائيلية، ليأتي الرد في غالب الأوقات بكلمتين فقط: “قيد التحقيق”. أما الصليب الأحمر الدولي، فلم يتمكن من لعب دور أكبر من الدور المحدود الذي تلعبه الأمم المتحدة.
إن حملات الاعتقال الإسرائيلية الممنهجة في جنوب سوريا ليست مجرد إجراءات أمنية، بل هي أداة لفرض قبضة حديدية مطلقة على المنطقة. وتخلف هذه السياسة وراءها مأساة إنسانية صامتة تطال عشرات العائلات التي تُركت لمواجهة مصير أبنائها المجهول، وسط غياب شبه تام للاهتمام على كافة المستويات.
وفي خضم هذه المأساة، يرى أهالي القنيطرة أن أبناءهم ليسوا منسيين فقط في سجون الاحتلال، بل من قبل حكومتهم التي تلتزم صمتاً مطبقاً، وتمتنع حتى عن إصدار بيان إدانة يمثل الحد الأدنى من المسؤولية.
وفي ظل انعدام الاهتمام بملف المعتقلين، لم تعد هذه القضية مجرد انتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الإنسان، بل تحولت إلى قضية وطنية تختبر بشكل حقيقي جدية الحكومة السورية الجديدة وقدرتها على بسط سيادتها الفعلية والدفاع عن مواطنيها.
