أبجدية الرصاص: عن مشهد التسلّح السوري

آخر تحديث: 12 أكتوبر، 2025

الوقت اللازم للقراءة:

7 mins

منذ اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، ومع تهاوي منظومات الضبط التقليدية وتعدد القوى المحلية، تسلّل السلاح من المخازن إلى الأزقة، ومن خطوط الجبهات إلى البيوت. صار السلاح جزءاً من الحياة اليومية؛ يُطلق في الأفراح، ويُشهَر في الخصومات، ويُخزَّن “احتياطاً” تحسباً المجهول.  ولأن الانطباعات لا تكفي، يلزم أن نتعرّف إلى المعدن نفسه بالأرقام والمسارات.

خريطة البنادق

السلاح ليس مجرّد قطعة معدنية، بل ميزانٌ صامت لدرجة الغليان في أي مجتمع. وأوضح لقطةٍ قبل الانفجار جاءت في Small Arms Survey (2007): نحو 735 ألف قطعة في الحيازة المدنية، أي 3.9/100؛ خطّ أساسٍ منخفض يصلح لقياس التحوّل اللاحق أكثر مما يصلح لوصف الراهن بدقة. 

على مستوى الأنواع يهيمن الكلاشينكوف والمسدسات، ثم الرشاشات الخفيفة/المتوسطة (PKM/PKC) وأحياناً الثقيلة (دوشكا)، إلى جانب قواذف RPG وبنادق قنص ظهرت في نزاعاتٍ محليّة. وأظهرت تقارير Conflict Armament Research تتبّعاً لعشرات آلاف القطع والذخائر عبر سوريا والعراق يكشف تنوّع المنشأ وتعقيد شبكات التوريد وإعادة التدوير؛ وهذا يفسّر تنوّع ما يتسرّب اليوم إلى الاستعمال المدني.

منذ 2011 انقلب ميزان العرض والطلب بفعل تفكّك المركزية الأمنية وتبدّل خرائط السيطرة. وثّقت «عنب بلدي» سوقاً رقمية نشطة – خصوصاً عبر «تلغرام» – بهوامش سعرية لبنادق الكلاشينكوف بين 100 و500 دولار بحسب المصدر والحالة (2023). وفي نيسان/أبريل 2025 هبط السعر في درعا إلى 100–150 دولاراً للبندقية الروسية؛ مؤشر على وفرة المعروض وسهولة الوصول قياساً بسنواتٍ سابقة. صحيح أن انخفاض السعر يُقلّل كلفة الحيازة، لكن الرصاصة لا تصير «لغة نزاع» إلا حين يتزامن ذلك مع ضعف الردع القضائي وتيسّر التهريب وهشاشة سلطة الدولة عموماً.

جغرافياً، يتصدّر الجنوب – درعا والسويداء – المشهد بخليطٍ من «سلاح منزلي» وترسانات مجموعات محلية على أرضية إرث عشائري وفراغ مؤسّسي؛ لذا تصبح بيانات الصراعات هناك مؤشراً حسّاساً على أثر غياب الردع. 

سجّل «درعا 24» في آب/أغسطس 2025 39 قتيلاً بينهم 26 مدنياً خلال شهرٍ واحد في موجات اغتيالٍ ونزاعاتٍ متقطّعة؛ أرقام لا تقيس المخزون مباشرة، لكنّها تقيس نتائج تحكيم الرصاص للخصومة. أمّا الشمال الغربي فتسوده تجارةٌ مزمنة تتأرجح بين الحاجة الأمنية والربح، مع محاولات ضبطٍ متفاوتة، وسوقٍ تُسيّرها قنوات رقمية نشطة ومعروض يمتد من بنادق الصيد إلى الرشاشات، وطبقات أسعار تحكمها جودة السلاح ومصدره وحرارة الطلب المحلي.

ذاكرة الدم

في الشمال الذي كانت تسيطر عليه فصائل معارضة مدعومة تركيا، وثّقت «هيومن رايتس ووتش» في تقريرٍ مطوّل (2024) نمطاً من الانتهاكات ضد السكان و«حكم السلاح» على الحياة اليومية في مناطق الشمال بما يعكس أثر انتشار السلاح على الحقوق، حتى حين لا تكون المعارك مفتوحة.

الجنوب السوري قدّم المثال الأشد قسوة في صيف 2025. بدأت السويداء في 13 تموز/يوليو جولة عنفٍ دامية بين مجموعات درزية ومسلحين بدوٍ على خلفية عمليات خطف وثأر وتوترات قديمة – جديدة. 

توثّق تحديثات «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين» سلسلة “Regional Flash Update #37” أعدادا ضخمة للنازحين وصلت إلى نحو 176 ألفا نهاية يوليو، مع تأكيدٍ على هشاشة وقف إطلاق النار وسقوفٍ متباينة لتقديرات القتلى، فيما نقلت «رويترز» عن مصادر أممية وأهلية تقديرا بتجاوز القتلى الألف خلال أيام، تأكيدا لفداحة الأثر حين تُدار الخصومة بالسلاح لا بالقضاء. 

الأرقام هنا ليست مجرد إحصاء، بل دلالة على كيف يتحول السلاح المحلي إلى حربٍ أهلية مصغّرة خلال ساعات. تتكرر الصورة بدرجات أقل حدّة في درعا: اغتيالاتٌ متسلسلة وإطلاق نار مجهول الفاعل ضد ناشطين وأعيانٍ محليين وسابقين في الفصائل؛ وحصيلة أغسطس 2025 في تقرير «درعا 24» المذكور تشرح القصة بوضوح، من دون حاجةٍ إلى تضخيم. وإلى جانب الاغتيالات والصراعات المسلحة، هناك نمط آخر أكثر اعتياداً لكنه لا يقل فتكاً.

طلقةُ مأتم

في الخلفية الأوسع، توثّق «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» شهرياً مقتل عشرات المدنيين على امتداد البلاد بطرقٍ تشمل إطلاق النار المباشر، وهي مرآةٌ تخبرنا عن استمرار خطر السلاح حين تغيب منظومة الردع والمساءلة. 

وهناك “العادي المميت”: إطلاق النار «الاحتفالي» الذي يرافق المناسبات العامة، وفي مقدمتها نتائج الثانوية. تَرصد تغطيات سورية موثقة سقوط قتلى ومصابين في دير الزور ومناطق أخرى خلال احتفالات الأيام الأخيرة، وتشرح مواد قانونية كيف تُكيَّف هذه الجرائم في قانون العقوبات السوري بين «غير العمد» و«شبه العمد» باجتهاد المحكمة.

من قصدٍ إلى نظام

الأصل في الأشياء الإباحة، والسلاح – بوصفه أداة – يحمل حكمه من القصد؛ فالدفع عن النفس والمال مشروع، وقد صحّ الحديث: «من قُتل دونَ مالِه فهو شهيد» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد). وفي التنزيل الحكيم أصلٌ عام للردع: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، يقابله قيدُ عدم الاعتداء: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190). كما تُحرِّم الشريعة الترهيب ولو مزاحاً: «لا يحلّ لمسلمٍ أن يُروِّع مسلماً» (أبو داود)، وتضبط حتى النقل الآمن للأداة: «إذا مرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو سوقِنا ومعه نبلٌ فليمسكْ على نِصالِها» (البخاري ومسلم).

هذه الأصول تُترجَم مؤسسياً إلى قاعدتين مشهودتين في الفقه والسياسة الشرعية: الأولى أنّ «حفظَ الدماء» واجب، و«ما لا يتمّ الواجبُ إلا به فهو واجب»؛ والثانية «سدّ الذرائع»؛ أي تصميمُ الأنظمة بما يمنع تحوّل المباح إلى ذريعة مفسدة. ويسنِد ذلك مبدأُ «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» .

 بناءً عليه: الحيازةُ الدفاعيةُ حقٌّ مشروط داخل “احتكار الدولة للعنف”، فيما يُحظَر الإظهارُ في الفضاء العام حمايةً للمصلحة، ويُحصرُ الاستخدامُ في حدود الدَّفع المشروع بأضيق قدرٍ يمنع الضرر ويقطع مادته.يأتي هذا الضبط في بيئة تتقاطع فيها اعتداءات “إسرائيل” مع فوضى السلاح وهشاشة الدولة؛ لذا يلزم ميزانٌ يَدرأ الخارجي ويُطفئ الداخلي.

حقٌّ ثابت… وضبطٌ واجب

الميزان بسيط وواضح: لا يُترك الناس عُزّلاً أمام تهديدٍ خارجي يترصد وتمرداتٍ داخلية، ولا يُترك الفضاء العام ممراً حرّاً للسلاح. تثبيت حقّ الحيازة الدفاعية يكون داخل إطار احتكار الدولة لا خارجه: الحقّ للفرد، والتنفيذ والردع للمؤسسات. 

وعليه يُفصل بدقّة بين ثلاث دوائر: حيازةٌ مرخّصة لسلاحٍ خفيف بعد ترخيصٍ بمُهلٍ ملزمة وفحصٍ أمني وتدريبٍ أساسي وخزنةٍ محكمة مع فصل الذخيرة وقفل الزناد؛ حملٌ محظور في المدن والأسواق والمساجد والمرافق العامة، واستخدامٌ مقصورٌ على حالة الدفع المشروع، مع تجريمٍ صريحٍ للإطلاق التحذيري والاحتفالي. وما دام الحق لا يحميه إلا إجراءٌ مُحكَم، فالخطوة التالية هي تفكيكُه إلى أدواتٍ عملية قابلة للقياس.

من المبدأ إلى الأداة

حتى لا تبقى القاعدةُ حُسنَ نوايا على الورق، يبدأ التطبيقُ بترخيصٍ يردع ولا يبتزّ: تدريبٌ قصير مع شهادة كفاءة، وفحصٌ أمني بمُهلٍ مُلزمة تُغلق أبواب الفساد الإداري. وتُمنَح كلُّ قطعةٍ «هوية» عبر وسمٍ رقمي يربط المقذوف بالسلاح وصاحبه، فتعلو كلفةُ الجريمة وتتهاوى فائدةُ الإفلات. بالتوازي تُعاد هندسةُ الفضاء العام ليكون خالياً من السلاح؛ والقواعد معلومة قبل أن تكون مُرهِبة: من يدخل بسلاحٍ يُصادَر سلاحُه، ويُسحب ترخيصُه، ويُحال فوراً إلى القاضي المختص.

ولسدّ ثقوب سنوات الانفلات تُفتح «نافذةُ تسوية» تُشرعن الحيازةَ غير النظامية بلا أثرٍ رجعي على جرائم العنف: التسوية تُصحّح الوضعَ الإداري للسلاح، ولا تُبرّئ استعمالاً إجرامياً سابقاً. بعد إغلاق النافذة يبدأ ضبطٌ طويلُ النَّفَس للسوق السوداء، مع حوافز تسليمٍ تُخرج السلاحَ المتوسط/الثقيل من البيوت إلى المخازن الرسمية. وعلى الشريان الرقمي حيث ازدهر «البازار»، تعمل وحداتُ إنفاذٍ إلكتروني على رصد قنوات البيع، وتوثيق الأدلة، وقطع سلاسل السمسرة والتهريب من المصدر.

وتُعاد العدالةُ إلى مركز المشهد بمساراتِ تقاضٍ عاجلة لقضايا السلاح والدم؛ فالتباطؤ يُغري بالثأر، والثأر يولّد ثأراً. ولئلّا يغدو الحقُّ امتيازاً طبقياً، تُخفَّف رسومُ الترخيص، ويُمنَع الترخيصُ عمّن تثبت بحقّهم سوابقُ جريمة. بهذه السلسلة المتكاملة ينتقل الحقُّ من التنظير إلى ممارسةٍ يومية تُحصّن المجتمع وتُعيد للدولة هيبتها.

الشرعية السياسية والأخلاقية

هذه الحزمة ليست «تكنوقراطاً بلا روح». هي ترجمةٌ سياسية لمقاصد الشريعة: حفظُ النفس والمال والعرض، ومنعُ الضرر، وسدّ الذرائع. «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة»، والمصلحة هنا تُصاغ بأدواتٍ واضحة: قضاءٌ سريع يقطع طريق الثأر، وفضاءٌ عامٌ آمنٌ للضعفاء قبل الأقوياء. الحقّ الدفاعي ثابت، لكنه مشروطٌ كما أسلفنا.

آخرُ الحجج لا أوّلُ الخصام

المشهد السوري يحدّثنا بلغة بسيطة: وفرةٌ أرخص، وصولٌ أسهل، وأثرٌ أوسع عندما يغيب الردع. التأصيل الشرعي يثبت الحقّ الدفاعي ويمنع الترهيب. بهذه القواعد تُصاغ معادلةٌ تحفظ كرامة الناس وتعيد للدولة هيبتها: حيازة منزلية مرخّصة ومؤمّنة، فضاءٌ عام خالٍ من السلاح، استخدامٌ محصور بالدفع المشروع. عند هذه العتبة يعود السلاح إلى مكانه الطبيعي: آخرُ حجج الدفاع لا أوّلُ مفردةٍ في الخلاف.